لبيان حقيقة البتكوين كعملة إلكترونية تخيلية مشفرة حديثة الظهور في العالم، ليس لها وجود فيزيائي على أرض الواقع، حيث يتم تداولها عبر الإنترنت فقط، فإن الأمر يتطلب الحديث عن العملات الورقية التي تصدرها البنوك المركزية في مختلف دول العالم، وهو ما يعود بنا إلى ما كتبه مؤرخ الديار المصرية العالم الجليل " تقي الدين المقريزي " منذ أكثر من ستمائة عام عن النقود ودعوته إلى العودة إلى نظام النقود الذهبية.
الإمام المقريزي يسبق عصره
ذكر المقريزي في كتابه " شذور العقود في ذكر النقود " النقود التي تعامل بها العرب في الجاهلية وأوزانها، وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه النقود، بشرط أن يكون التعامل بها وزناً لا عداً لاختلاف أحجامها، وتناول بيان النقود من عهد الخلفاء الراشدين حتى عهد الدولة المملوكية مع تركيزه على أهمية أن تكون النقود مسكوكة من الذهب والفضة، وانتقد استخدام " الفلوس " المعدنية المسكوكة من النحاس أو البرونز أو الحديد في التعامل، والعجيب أن الفلوس جمع فلس وهو مشتق من الإفلاس، حيث يقال أفلس الرجل أي صار مفلساً بمعنى أن نقوده الذهبية والفضية تحولت إلى فلوس مسكوكة من معادن رخيصة.
أما كتابه " إغاثة الأمة بكشف الغمة " فقد ذكر فيه مرحلة ضرب الدولة الإسلامية للنقود الخالصة من الذهب في العهدين الأموي والعباسي، وخصص فصلاً للنقود في مصر بين فيه أنها كانت من الذهب والفضة قبل أن يبدأ المماليك في ضرب الفلوس من المعادن الرخيصة، ومن أهم ما ورد في هذا الكتاب هو أن المبالغة في ضرب النقود من غير الذهب والفضة يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بما يؤثر في أوضاع الطبقات المختلفة من الناس.
التحول من النظام الذهبي إلى النظام الورقي
قدمت النقود الذهبية والفضية خدمات كبيرة للاقتصاد لفترات طويلة ويرجع ذلك إلى الثبات النسبي في قيمة الذهب والفضة، إذ لا تتغير أسعارهما تغيراً كبيراً بسبب الندرة النسبية في كمياتهما، وهو ما يعني أيضاً أن وزناً صغيراً منهما يمثل قيمة كبيرة مما سواهما، وهذا يسهل حملهما ونقلهما وحفظهما باعتبارهما مخزن للقيمة وأداة لتسوية الديون والالتزامات المؤجلة، كما أن ارتفاع ثمنهما يمكن من تجزئتهما إلى أحجام وأوزان مختلفة للوفاء بالالتزامات المتعددة، بالإضافة إلى صعوبة الغش فيهما إذ يمكن كشفه بسهولة، الأمر الأخير أن قيمتهما كنقود لا تختلف عن قيمتهما كسلعة وهو ما يجعلهما يحتفظان بقيمتهما حتي لو ألغي التعامل النقدي بهما.
لهذه الخصائص التي تميز النقود الذهبية والفضية فإن الإمام الغزالي في الإحياء يذكر أن من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير إذ بهما قوام الدنيا، وأن الله تعالى قد خلقهما لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل، وليتوسل بهما إلى سائر الأشياء، لأنهما عزيزان في أنفسهما، ومن ملكهما فكأنه ملك كل شئ.
رغم أن الندرة النسبية للذهب والفضة تعتبر ميزة للنقود المسكوكة منهما إلا أنه وفي أحيان كثيرة وبسبب تطور الحياة الاقتصادية قد تحتاج الدولة إلى سك كميات كبيرة من النقود لتغطية احتياجاتها الطارئة، وهو ما لا تتمكن الدولة من فعله في ظل النظام الذهبي بسبب قلة مخزون الذهب. وذلك ما حدث مع بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914 حيث لم يعد مخزون الذهب قادراً على الوفاء بالتوسع الضخم في النفقات، والحاجة الكبيرة إلى الإنتاج، فتم وقف اتخاذ الذهب والفضة كنقد، وهو ما أدى إلى انهيار قاعدة الذهب وظهور النقود الورقية الإلزامية.
مراحل تطور النقود الورقية
لقد مرت النقود الورقية بثلاث مراحل كل منها تعتبر نوعاً من أنواع النقود الورقية، والتباين بين هذه المراحل يتوقف على تغطيتها الذهبية، وهي على النحو التالي:
1- مرحلة النقود الورقية النائبة: وهي مرحلة الغطاء الذهبي الكامل حيث كانت النقود شهادات أو صكوك أو سندات تعبر عن كمية من الذهب أو الفضة مودعة لدى الصائغ في البداية، أو لدى المصرف في مرحلة تالية عند إنشاء المصارف، ثم لدى البنك المركزي عندما قررت الدول أن تشارك المصارف في فوائد الإصدار النقدي بتولي إصدار سندات الإيداع، وفيها عبارة تفيد أن هذا السند يمثل كمية كذا من الذهب أو الفضة، مع تعهد من الجهة المصدرة بدفع قيمته عند الطلب بالعملة الذهبية أو الفضية.
2- مرحلة النقود الورقية الوثيقة: في هذه المرحلة أصدرت البنوك المركزية النقود الورقية بدون أن تكون مغطاة بالكامل بالذهب، واكتفت بالتغطية الجزئية بنسبة معينة، مع استمرار قابلية هذه الأوراق للتحول إلى ذهب، ومع زيادة النشاط الاقتصادي بمعدل يفوق الزيادة في الرصيد الذهبي استمرت نسبة التغطية الذهبية في التناقص، ومع هذا ظل الناس يتداولونها اعتماداً على الثقة في الجهة التي تصدرها، ومن هنا جاءت تسميتها " بالوثيقة ".
لقد أدركت البنوك بخبرتها أن نسبة قليلة ممن بيدهم الصكوك الورقية يعودون إليها لصرفها بالعملة الذهبية، مما شجعها على إصدار صكوك من غير أن تكون مغطاة تماماً بالذهب أو الفضة، وتعد مرحلة النقود الوثيقة المرحلة التمهيدية للخروج على النظام الذهبي، وذلك بجعل القيمة الاسمية للنقود المدرجة على الوثيقة تزيد عن القيمة الحقيقية للنقود الذهبية المودعة لدى البنك، واستمر التناقص في الغطاء الذهبي للوثيقة حتى الوصول إلى إصدار النقود الاصطلاحية أو القانونية غير المغطاة.
3- مرحلة النقود الورقية الإلزامية: وهي المرحلة التي نحياها، وفيها تصدر الدولة بواسطة البنك المركزي أوراق نقدية غير مغطاة بالذهب أو الفضة، وغير قابلة للصرف بهما، وتطرحها للتداول بقوة القانون، وهي مجرد قصاصة ورقية، إذا ألغت الدولة التعامل بها أصبحت بلا قيمة.
العملات الورقية كبديل للنقد الذهبي
حينما تطلق كلمة العملة فإنها تعبر عن معنيين:
1- العملة الورقية المحلية المتداولة داخل البلد الذي أصدرها كالجنيه في مصر، والدولار في أمريكا، واليورو كعملة موحدة لدول الاتحاد الأوروبي، والفرنك السويسري، وغير ذلك من العملات الورقية لدول العالم.
2- التعبير عن النقود بصفة عامة، فعندما يقال: أحكام العملات فالمقصود أحكام النقود، وكذلك عند ذكر زكاة النقود فإن المعنى ينصرف إلى زكاة العملات الورقية لعدم وجود النقود الذهبية.
ولأن النقود الورقية ليست أصل عيني قائم بذاته يتولد عنه دخل، والنقد الورقي على اختلاف فئاته نقد اصطلاحي يستمد قيمته المطبوعة عليه بقوة القانون، وهو لا يخرج عن كونه إما مقياس للقيمة، أو وسيط لتسهيل تبادل السلع والخدمات في الاقتصاد العييني الحقيقي، أو مخزن للقيمة وأداة لتسوية الديون والالتزامات المؤجلة. ولأن النقود الورقية لا تطلب لذاتها بل لوظائفها وما يمكن الحصول عليه من سلع وخدمات بواسطتها، لذا يجب أن تتمتع العملات الورقية بثبات نسبي في قيمتها، وألا تتحول إلى سلعة تباع وتشترى، فإن حدث هذا انعدمت ثقة المتعاملين فيها وفقدت قيمتها.
البتكوين نقود إلكترونية لما بعد العملات الورقية
إن عدم تغطية البنوك المركزية للعملات الورقية التي تصدرها بأي معدن له قيمة ذاتية، وتوسع البنوك التجارية في التصرف في ودائع العملاء بدون إذنهم بالتمويل والإقراض بفائدة لعملاء آخرين وللدولة بعد الاحتفاظ بجزء بسيط منها في حدود 10% كاحتياطي نقدي لمواجهة طلبات سحب أصحاب الودائع الفعلية، مع فتح حسابات جارية للمتمولين والمقترضين، والتعامل مع هذه الحسابات على أنها ودائع جديدة، مع أنها ليست ناشئة عن إيداع نقدي حقيقي، هو ما يؤدي إلى مضاعفة حجم النقود التي يتعامل بها البنك أضعاف ما يتوافر لديه من إيداعات حقيقية، وهذا ما يعرف بتوليد النقود أو خلق الودائع، ومما لا شك فيه أن هذه الأمور فتحت الباب أمام الهواة والمغامرين والمقامرين والحالمين بالثراء السريع من دون بذل جهد أو عمل إلى ابتكار وإصدار أنواع جديدة من النقود الافتراضية بعيداً عن رقابة البنوك المركزية للدول.
كل ما تريد معرفته عن عملة بتكوين المشفرة
البتكوين عملة افتراضية إلكترونية تشفيرية يمكن مقارنتها بالعملات الرسمية المستخدمة حالياً كالدولار واليورو، ولكن مع عدة فروق جوهرية من أبرزها أنها عملة إلكترونية بشكل كامل يتم التداول بها عبر الإنترنت فقط من دون وجود فيزيائي لها. كما أن البتكوين يختلف عن العملات التقليدية في عدم وجود سلطة مركزية أو بنك مركزي يقف خلف إصدارها. لقد قٌدمت البتكوين أول مرة في ورقة بحثية سنة 2008 من شخص مجهول الهوية يدعى " ساتوشي ناكاموتو " والبعض يتحدث عن أن الذي ابتكرها مجموعة من الطلبة الأيرلنديين يتخفون وراء هذا الاسم المستعار، وقد وصفها بأنها نظام نقدي إلكتروني يعتمد في التعاملات المالية على مبدأ الند للند " Peer- to- peer "، وهو مصطلح تقني يعني التعامل المباشر بين مستخدم وآخر دون وجود وسيط، وقال أن الهدف من عملة البتكوين التي طرحت للتداول لأول مرة سنة 2009 هو تغيير الاقتصاد العالمي بنفس الطريقة التي غيرت بها الويب أساليب النشر.
•إصدار أو تعدين البتكوين
إذا كانت الدول تقصر إصدار عملتها الورقية على بنوكها المركزية فإن الإصدار الافتراضي للبتكوين أو ما يطلق عليه " تعدين البتكوين " يتم بواسطة " المعدنين "، وعملية التعدين ليست مقصورة على جهة مركزية أو أشخاص معينين، بل هي متاحة للجميع وفي أي مكان في العالم، ولكنها تتطلب وقتاً وكمبيوتر سريع بمواصفات عالية تسمح بتحميل " برنامج التعدين المجاني " أو Bitcoin Miner، بهذا البرنامج يُمكن حل عدد من الألغاز التي يحصل عليها المُعدن من شبكة البتكوين ويسمونها خوارزميات – الخوارزمية هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما– بعد الانتهاء من حل الخوارزميات يقوم البرنامج بإصدار عملة بتكوين وإضافتها إلى المحفظة الإلكترونية لمن قام بالتعدين.
•ضوابط إصدار البتكوين
كما أن طباعة العملات الورقية يخضع لضوابط حتى لا يحدث التضخم، فإن مبتكري عملة البتكوين لتجنب مخاطر التضخم حددوا سقف إصدارها بـ 21 مليون وحده حول العالم، تم إنتاج 14 مليون وحدة منها حتى الآن، ومن المنتظر الوصول إلى كامل الإصدار في الفترة من سنة 2025 إلى 2030، حيث يتم في هذه الأيام إنتاج 25 بتكويناً حول العالم كل 10 دقائق، ويتم تقليص هذه الكمية إلى النصف كل 4 سنوات إلى أن يتم إنتاج آخر بتكوين، وبعدها يمكن الحصول على البتكوين عن طريق الشراء فقط ولا يتم توليده من خلال التعدين، وليضمنوا ذلك وضعوا كودها بحيث تزداد صعوبة إنتاجها عن طريق التعدين، وذلك بتعقيد الخوارزميات المطلوب حلها كلما كثر عدد المعدنين مع مرور الزمن حتى يتوقف إصدارها تماماً.
وللتغلب على ندرة البتكوين إذا تحولت إلى عملة العالم في المستقبل كما يتوقع البعض فإن من ابتدعها جعلها قابلة للتقسيم إلى جزيئات أصغر تسمى " الساتوشي "، فكل بتكوين يحتوي على 100 مليون ساتوشي، وهو ما يسمح للقيمة الإجمالية لها أن تصل إلى أي رقم بما يلبي احتياجات العالم من النقود.
•خصائص عملة البتكوين
1- عملة تخيلية ليس لها أي وجود فيزيائي وليس لها أي قيمة فعلية.
2- عملة غير نظامية بمعنى أنها غير مدعومة من أي جهة رسمية أو مؤسسية أو خاصة.
3- تستخدم من خلال الإنترنت فقط وفي نطاق المؤسسات والشركات التي تقبل التعامل بها.
4- يمكن تبادلها بالعملات الورقية مثل الدولار واليورو بعمليات مشفرة عبر الإنترنت.
5- عمليات التبادل التجاري تتم من شخص لآخر بصورة مباشرة دون حاجة لتوسيط البنك.
6- لا يوجد حد معين للإنفاق أو الشراء كما في بطاقات الائتمان المختلفة.
7- عدم إمكانية تتبع أو مراقبة العمليات التجارية التي تتم بواسطتها.
•البتكوين هو الأشهر وليس الأوحد
البتكوين هو العملة التشفيرية الأكثر شهرة على شبكة الإنترنت، ولكنها ليست العملة التشفيرية الوحيدة حيث يتوفر حالياً ما لا يقل عن 60 عملة تشفيرية مختلفة منها 5 عملات على الأقل يمكن وصفها بالرئيسية بناء على عدد المستخدمين لها، واتساع بنية الشبكة التي تقبل التعامل بها، وعدد الأماكن التي يمكن من خلالها استبدال العملة الافتراضية التشفيرية بالعملات الورقية الأخرى، وجميع العملات التشفيرية الموجودة حالياً تستنسخ المصدر المفتوح لعملة البتكوين مع إدخال بعض التعديلات عليه ومن ثم إطلاق عملة جديدة، ومن أمثلة هذه العملات:
أ- لايتكوين: إذا كان البتكوين هو الذهب فإن اللايتكوين هو الفضة، وتتميز عن البتكوين بأن عملية التنقيب أسهل.
ب- نوفاكوين: وهي تختلف عن باقي العملات التشفيرية في أنها تدمج برامج الحماية داخل نواة العملة، وهو ما يمنع الاعتداء من قبل مجموعات التعدين.
ج- نيمكوين: تتميز بالندرة العالية حيث أن مجموع المصدر منها هو مليون وحدة فقط.
د- بيركوين: تمتاز البيركوين بزيادة في كفاءة التعدين، وتحسين الأمن والضمانات لتجنب سوء معاملة المعدنين، وقيمتها السوقية تعتبر الرابعة بين العملات الافتراضية.
هـ- فزركوين: وتتميز بقدرتها على ضبط صعوبة التعدين في كثير من الأحيان، كما أنه يتم تحديثها بانتظام لدمج الميزات والتحسينات الجديدة فيها.
•الاعتراف الدولي وانتشار البتكوين
تعد ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي اعترفت رسمياً بأن البتكوين نوع من النقود الإلكترونية، وهو ما يسمح للحكومة الألمانية بفرض الضريبة على الأرباح التي تحققها الشركات التي تتعامل بالبتكوين، في حين تبقى المعاملات الفردية معفية من الضرائب.
كما صدر مؤخراً حكم من قاضي فدرالي أمريكي بأن البتكوين هي عملة ونوع من أنواع النقد، ويمكن أن تخضع للتنظيم الحكومي، لكن الولايات المتحدة لم تعترف بالعملة رسمياً بعد.
شركة " روبوكوين " ومقرها لاس فيجاس (مدينة كازينوهات القمار) ركبت أول جهاز صراف آلي ATM في العالم لعملة البتكوين في مدينة فانكوفر الكندية، لتصبح كندا هي أول دولة تحتضن مثل هذا الجهاز، وصرحت الشركة بأنها تزمع تركيب جهازين آخرين في وقت لاحق من هذا الشهر، أحدهما في مدينة كالغاري الكندية، والآخر في الولايات المتحدة الأمريكية وسيتم تركيب الجهاز الذي يطلق عليه اسم " كيوسك " في مدينتي سياتل وأوستن الأمريكيتين، وهو يشبه إلى حد كبير جهاز الصراف الآلي التقليدي، ولكنه يضم ماسحات ضوئية لقراءة وثائق إثبات الهوية الشخصية مثل رخصة القيادة أو جواز السفر لتأكيد هوية المستخدمين.
العملة الافتراضية البتكوين راج تداولها في الأشهر الأخيرة حول العالم باعتبارها أداة مالية يميل سعرها إلى التقلب، وهو ما يجعلها أداة لتحقيق أرباح بالمراهنة والمقامرة على تقلبات أسعارها في البورصة، وخاصة أن البتكوين الخارج عن وصاية أي سلطات مالية لأي دولة ارتفعت قيمته لأكثر من مليون مرة خلال 5 سنوات، حيث كان الدولار يساوي 1000 بتكوين عند صدوره سنة 2009، وتجاوزت قيمته الآن الـ 1090 دولار ليقترب من سعر الذهب، ويصل حجم تداول البتكوين حالياً إلى 15 مليار دولار، وهو ما جعل البتكوين يفرض حضوره ويكتسب شهرة واسعة في دول شرق آسيا والصين واليابان ووصلت شهرته إلى الخليج هذا الشهر، بعد إعلان مطعم " ذي بيتزا جايز " في دبي إضافتها كخيار للدفع إلى جانب البطاقة الائتمانية والعملة النقدية لتصبح أول شركة في المنطقة تقبل هذه العملة الافتراضية.
•مخاطر ومخاوف بشأن البتكوين
رغم أنه قد يكون من الطبيعي وجود عملة إلكترونية تفيد التعاملات الاقتصادية في الوقت الراهن وخاصة مع تزايد التعاملات الإلكترونية بصورة كبيرة، إلا أن التعامل بعملة افتراضية يصدرها أشخاص مجهولي الهوية، ويتم تبادلها بأسماء مستعارة وغير حقيقية في ظل عدم وجود أي سلطة مالية تراقبها يفتح الباب على مصراعية أمام استخدامها في عمليات غسيل الأموال أو سداد قيمة تجارة المخدرات أو تحويل أموال ناتجة عن عمليات الجريمة المنظمة، وهي بذلك تساهم في زيادة الأنشطة الإجرامية في العالم، كما أنها قد تؤدي إلى مزيد من عمليات النصب والاحتيال المالي، هذا بالإضافة إلى مخاطرها الاقتصادية المتمثلة في تهديد الاستقرار النقدي في الدول التي ينتشر استخدامها فيها، وذلك نتيجة لأن التحكم في كميات عرض النقود لم يعد تحت سيطرة السلطات النقدية لهذه الدول.
الأهم من هذا كله هو أن البتكوين عملة احتكارية تتركز في أيدي مجموعة قليلة ممن يملكون أجهزة كمبيوتر ذكية ويجيدون استخدام تقنية تكنولوجيا المعلومات، وذلك نظراً لتعقد العمليات الحسابية اللازم إجرائها ليصبح المستخدم مُعدّناً ويحصل على البتكوين، وهذا الاحتكار يشكل تهديداً لمستقبل الاقتصاد العالمي نظراً لقدرة المحتكرين على التحكم فيه وفق أهوائهم.
الذهب والدولار والبتكوين
من المهم إدراك أن هناك تغيراً كبيراً سيحدث في النظام الاقتصادي العالمي النقدي والمالي قد لاحت بوادره في الأفق، وفي محاولة لاستقراء التغير في المستقبل الاقتصادي للعالم سأعود بالذاكرة إلى الماضي القريب بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في سنة 1945، حيث عقد مؤتمر الأمم المتحدة في مدينة " بريتون وودز " الأمريكية اشترك فيه مندوبو 44 دولة، وكان الهدف منه العمل على تحقيق الاستقرار النقدي بالحفاظ على الثبات النسبي لقيمة النقود، وذلك بعدم ترك الحرية لبعض الدول في تخفيض قيمة عملتها لغير سبب مشروع لأن هذا يضر بالمنافسة الحرة لمنتجات الدول الأخرى، وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية من وراء هذا النظام النقدي الجديد لأنه يحقق مصالحها لما كانت تتمتع به من قوة اقتصادية تسبقها قوة سياسية مدعومة بقوة عسكرية كبيرة.
لقد انتهى هذا المؤتمر إلى عدة قرارات كان أهمها ربط الدولار بالذهب بسعر 35 دولار للأونصة – الأونصة حوالي 30 جرام تقريباً– وربط باقي العملات بسعر صرف ثابت منسوب للدولار، مع التزام أمريكا باستبدال الدولارات التي لدى الدول الأخرى بالذهب، ومنذ هذا التاريخ أصبح الدولار هو عملة العالم في تسوية المدفوعات الدولية، وهو ما يعني فعلياً أن الدولار حل محل الذهب كغطاء لعملات الدول الأخرى. هذا القرار جعل البنوك المركزية لدول العالم تحرص على اقتناء الدولار وتجعله ضمن احتياطاتها النقدية جنباً إلى جنب مع الذهب.
لقد استمر النظام النقدي الذي نشأ عن قرار مؤتمر " بريتون وودز " في العمل حتى سنة 1971، حيث قررت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس نيكسون عدم قبولها تحويل الدولار إلى ذهب، هذا القرار أدى إلى ارتفاع سعر أونصة الذهب إلى 600 دولار، وهو ما شكل ضربة قاصمة للدول التي باعت ذهبها واشترت به الدولار بسعر 35 دولار للأوقية!. منذ هذا التاريخ اختفى النقد المسكوك من الذهب والفضة من التداول ولم تعد الدول تتخذهما نقداً، وتحول معياري القيمة إلى معدنين يُقوَمان بالنقد الورقي الذي لم يكن له قيمة إلا بمقدار غطائهما له! وفي سنة 1976 قرر مؤتمر " جاميكا " للإصلاح النقدي استبعاد الذهب من النظام النقدي وعدم اتخاذه أساساً لتقدير قيمة العملات، وبهذا القرار تحول الذهب من نقد إلى بضاعة عادية.
هذا الذي حدث في الماضي القريب بشأن الذهب يجعلنا نطرح عدة أسئلة مشروعة:
•هل البتكوين كعملة إلكترونية افتراضية مشفرة على وجه الخصوص أو أي عملة إلكترونية أخرى ستكون النواة والذريعة لتوليد إرادة عالمية لفرض عملة موحدة على دول العالم على غرار ماحدث في مؤتمر " بريتون وودز "؟.
•هل سيكون البتكوين وسيلة الولايات المتحدة الأمريكية للتخلص من ديونها التي اقترضتها من العالم والتي تتجاوز 17 تريليون دولار، وذلك بعد أن يشتري العالم البتكوين مقابل أسعار مرتفعة بالدولار ثم تخفض الولايات المتحدة قيمته بعد ذلك؟.
•هل مع زيادة التعامل بالبتكوين وتهافت المشترين عليه سيتضاعف قيمته مرة أخرى كما حدث في الخمس سنوات السابقة، وبذلك تصبح الجهة المجهولة التي تقوم بإصداره أكبر من جميع السلطات المالية العالمية مجتمعة؟.
•هل البتكوين باعتباره أداة مالية مبتكرة للمراهنة والمقامرة على تقلبات الأسعار اللحظية في بورصات العالم سيتحول إلى فقاعة تسبب أزمة مالية عالمية جديدة؟.
•هل سيكون البتكوين سبباً في عودة العالم إلى النظام النقدي الذهبي باعتبار أن إصدار عملات مغطاة بأي وزن من الذهب حتى وإن كان 001, من جرام الذهب (واحد في الألف) أفضل من إصدار العملات بدون غطاء بالمرة أو بغطاء افتراضي تخيلي؟.
•هل شراء العالم للبتكوين سيصبح فيلم سينمائي يحكي قصة أكبر عملية نصب في التاريخ؟.
أعتقد أن التفكير في إجابات لهذه الأسئلة يساعد في حماية الأشخاص والدول من خسائر وأزمات اقتصادية العالم غير مستعد لتحمل نتائجها.
د. عبد الفتاح محمد صلاح
مؤسس موقع الاقتصاد العادل