في الوقت الذي تترقب فيه حكومات دول العالم؛ ومسئولي البنوك والمؤسسات المالية المحلية والعالمية ما سيسفر عنه اجتماع دول اليورو، والقرارات التي ستصدر عن اجتماع دول الاتحاد الأوروبي بعدها بشأن أزمة الديون اليونانية، وتأثير هذه القرارات على حاضر ومستقبل الاقتصاد والمواطن اليوناني، وانعكاس هذا التأثير على اقتصاديات دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، وعلى العملة الأوروبية الموحدة " اليورو "، بل وعلى مستقبل الاتحاد الأوربي ذاته، وعلى الاقتصاد العالمي كله دون مبالغة، يلاحظ أن الكثيرين من أفراد شعوب منطقتنا العربية لا يعرفون شيئاً عن الأزمة وأسبابها وتأثيرها على اقتصاد دولهم ومدى امتداد ذلك إليهم كأفراد.
والسطور التالية تقدم عرض مختصر للأزمة، وأسبابها، والأطراف الفاعلة فيها، والخطط التي انتهجت لعلاج الأزمة، وأسباب فشل خطط العلاج المتتالية، وسيناريوهات الحل المتوقعة بعد تصويت اليونانيين بلا على الموافقة على المزيد من إجراءات التقشف المفروضة عليهم من دول الاتحاد الأوروبي للحصول على مزيد من القروض، وذلك ليكون القارئ الكريم على معرفة بالأحداث الاقتصادية العالمية التي ستؤثر لا محالة على كل دول العالم وأفراده، وإن كانت درجات التأثير متفاوتة من دولة لأخرى.
في البداية وقبل عرض تفاصيل الأزمة أجد أنه من الأهمية تقديم هذا الاقتباس من مقال بالواشنطن بوست للكاتبة الأمريكية " آنا سوانسون " تعرض فيه وجهة نظرها بشأن أزمة الديون اليونانية، والذي فى أعتقادي أنه بالرغم من بساطته يعبر بصدق عن أزمة الديون اليونانية، ويشير في الوقت نفسه إلى الدول التي تملك مفاتيح الحل أكثر من غيرها.
المانيا وفرنسا سبب أزمة اليونان!
تقول الكاتبة آنا سوانسون: " دخل اليونانيون والإيطاليون والأسبان والأيرلنديون باراً، وكان الألمان والفرنسيون هم من يقدمون الخمور ( السقاة )، كانت الليلة رائعة، وبدأ أبناء باريس وبرلين فى تقديم المشروبات بنصف الثمن، احتسى الجميع بشراهة، وظل السقاة يقدمون مشروباتهم دون إهمال أو تقصير، حتى دب الخلاف بين زبائن البار، ونشبت المعارك حتى حطموا كل شىء تقريباً، انتهت الليلة وذهب الفرنسيون والألمان إلى بيوتهم، بينما ظل الباقون فى معارك ضارية مستمرة ".
هكذا لخصت الكاتبة الأزمة الحادثة الآن بين اليونان ومنطقة اليورو، واعتبرت بكل وضوح أن الفرنسيين والألمان هم سبب المشكلة.
بداية الأزمة
مع تداعيات الأزمة المالية العالمية في 2008 بدأت الأزمة اليونانية في التفاقم أواخر عام 2009 نتيجة لانتشار المخاوف بين المستثمرين حول عدم قدرة اليونان على الوفاء بديونها للزيادة الحادة في حجم الدين العام، فوفقاً لموسوعة ويكيبيديا أن الدين العام اليوناني زاد من 263.3 مليار يورو في 2008 إلى 299.7 مليار يورو في 2009، وارتفع إلى 329.5 مليار يورو في 2010، ووصل إلى ذروته 355.6 مليار يورو في 2011.
يضاف إلى هذا ضعف نمو الاقتصاد اليوناني، وارتفاع عجز الموازنة، وارتفاع معدلات البطالة إلى 25% في المجمل، مع تركزها بين فئة الشباب لتصل إلى 50%؛ هذه العوامل مجتمعة أدت إلى أزمة ثقة لدى الدائنين والبنوك فارتفعت الفائدة على السندات اليونانية، وارتفع التأمين عليها ضد مخاوف التخلف عن السداد. وهو ما عقد من وضع اليونان، وصعب من قدرتها في الحصول على قروض جديدة لتسديد ديونها السابقة.
لم يعد أمام الحكومة اليونانية إلا التقدم بطلب رسمي في 23 يونيو 2010 إلى دول منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي بتفعيل خطة الإنقاذ المالي الموافق عليها من المفوضية الأوروبية، وهذه الخطة تتضن الحصول على قروض من دول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد بقيمة 45 مليار يورو تحتاجها الحكومة اليونانية لمواجهة النفقات المالية خلال السنة الجارية؛ إضافة إلى 16 مليار يورو أخرى مطلوبة لسداد قيمة سندات حل أجل سدادها مع نهاية شهر مايو، ولكن اليونان غير قادرة على إعادة تمويل هذه السندات من دائنين أو بنوك تجارية بسبب ارتفاع معدلات الفائدة إلى 8.3%.
خطط تقشف وإغراق في الديون وليست خطط إنقاذ
إن النظام الاقتصادي الرأسمالي الحر الذي ينتهج الليبرالية المتوحشة بهدف تعظيم الربح؛ تتعزز فيه أنانية الإنسان ومن بعده الدولة، وتنمو فيه روح الانقضاض على الآخر وليس الرحمة به، وتندثر فيه القيم الأخلاقية، وتختفي منه معاني التشارك والتضامن والمسئولية المجتمعية، فيتحول من مفهوم حماية حرية الاقتصاد؛ إلى حماية حرية أصحاب رؤوس الأموال في الحصول على الثروة والدخل، هذه الحقيقة تجعل من خطط الإنقاذ المقدمة لليونان أو أي دولة أخرى لها ظروف مشابهة خطط للتقشف والإغراق في الديون وليس للإنقاذ.
وحتى تتضح الصورة يجب أن يكون معلوماً أنه لكي تحصل أي دولة على قروض لمجابهة العجز في مواردها، فإنها تقدم أصول مملوكة للدولة كضمان للمقرضين تأكيداً لقدرتها على سداد القروض وفوائدها في المواعيد المحددة، وبذلك تضع الدولة المقترضة نفسها تحت الشروط والقيود التي تفرضها البنوك المقرضة في تقييم الأصول المقدمة كضمان لسداد القروض المطلوبة، وكذلك تعلن قبولها لتنفيذ الإجراءات التقشفية القاسية للمقرضين، وكلما كانت حاجة الدولة المقترضة ملحة وعاجلة وظروفها الاقتصادية صعبة، كلما وجدتها البنوك الدولية المقرضة فرصة لتخفيض قيمة الأصول المقدمة كضمانات ورفع نسبة الفائدة على القروض، وهذا هو ما حدث مع اليونان.
ففي الفترة مابين 2009 حتى 2010 تضاعفت أسعار الفائدة على سندات العشر سنوات اليونانية ثلاث مرات تقريباً، مما جعل الحكومة اليونانية تقبل مرغمة خطة الإنقاذ الأولى ( مايو 2010 - يونية 2011 ) وبذلك ربحت البنوك صفقة الديون الأولى بـ 110 مليار يورو.
وتكرر نفس الأمر في خطة الإنقاذ الثانية ( فبراير 2012 )، حيث اتبع المصرفيون نفس الطريقة فقاموا بتخفيض قيمة السندات اليونانية ورفع العائدات عليها؛ فاضطر البرلمان اليوناني أن يطلب مساعدات مالية ثانية أكثر من الأولى؛ وهكذا حصلت البنوك على صفقة الديون الثانية بـ 130 مليار يورو.
وهكذا يتضح أن خطط الإنقاذ التي قدمت لليونان هي في حقيقتها خطط تقشف وإغراق في في المزيد من الديون، فمع كل خطة إنقاذ مزعومة يتم تنفيذ إجراءات تقشفية أكثر من سابقتها، فمع خطة الإنقاذ الأولى وبدعوى وقف الزيادة في عجز الموازنه، استهدفت الإجراءات الحكومية خفض إجمالي النفقات العامة على الأجور والرواتب من 1% إلى 5.5%، عبر تجميد رواتب الموظفين الحكوميين وتقليص مكافآت العمل الإضافي وبدلات السفر.
ومع خطة الإنقاذ الثانية وافق البرلمان اليوناني في 5 مارس 2010 على مشروع قانوني يهدف إلى توفير 4.8 مليار يورو على إثر مخاوف من إفلاس الحكومة اليونانية وتخلفها عن السداد، تضمن هذا القانون رفع الضرائب على القيمة المضافة، وعلى السيارات المستوردة، والمحروقات، وخفض رواتب القطاع العام، وتقليص المكافآت والبدلات للموظفين الحكوميين.
ومن خلال دعوى التقشف والإصلاحات الهيكلية اضطرت الحكومة اليونانية لبيع الكثير من أصولها المربحة إلى مؤسسات دولية وأقليات سياسية، وتم مطالبة الحكومة اليونانية بخصخصة كل الخدمات من مياه وكهرباء، واتصالات، وحتى خدمات المطار، ولم يتوقف المصرفيون عند ذلك فطالبوا بخصخصة وسائل الإعلام.
وبذلك أصبح التقشف الذي تريده مجموعة اليورو وصندوق النقد الدولي من اليونان يعني وقف الإنفاق الحكومي على قطاع الخدمات التعليم والصحة والثقافة، وتسريح العاملين في القطاع العام، وخفص الحد الأدنى للأجور، وتخفيض المعاشات، وقطع الخدمات العامة، ورفع الضرائب على الممتلكات، وهو ما رفضه اليونانيون في الاستفتاء الأخير، حيث قالوا لا لإجراءات التقشف، نعم لاستقلالنا.
السيناريوهات المطروحة لعلاج الأزمة اليونانية
رغم الحملة التي شنها الإعلام الخاص على المصوتين اليونانيين لقول نعم على إجراءات التقشف للحصول على مساعدات جديدة تمكنهم من الاستمرار في منطقة اليورو، وتخويفهم من نتائج مغبة قول لا على الاقتصاد اليوناني، إلا أن اليونانيين صوتوا بلا بنسبة 61%، وهو ما كان له وقع الصاعقة على الاتحاد الأوروبي.
نتيجة التصويت بلا بنسبة مرتفعة عززت شرعية رئيس وزراء اليونان " تسيبراس " داخل حزبه اليساري " سيريزا "، وكذلك على صعيد الرأي العام اليوناني، وهو ما جعل رؤساء الأحزاب السياسية المعارضة في اليونان تجتمع على تأييده ومباركة سعيه في التقدم نحو إبرام اتفاقية مع الدائنين تكون مقبولة شعبياً، وبذلك يكون المفاوض اليوناني قد تحسن موقفه، وأصبح الاتحاد الأوروبي في مأزق بسبب هذه التطورات السياسية التي وضعتهم في مواجهة صريحة مع الشعب اليوناني. وفي كل الأحوال هناك ثلاث سيناريوهات لعلاج أزمة الديون اليونانية.
السيناريو الأول: أن يتم ضخ السيولة النقدية من البنك المركزي الأوروبي إلى البنوك اليونانية لتعود الحياة لطبيعتها، هذا بالتزامن مع البدء في مفاوضات فيها نوع من التكافؤ للتوصل إلى خطة إنقاذ حقيقية، تركز على التنمية والتكافل الاجتماعي بدلاً من الإجراءات التقشفية. لأن التنمية الاقتصادية وحدها هي القادرة على سداد الديون، وهو ما أكد عليه كل من وزيري الاقتصاد الأميركي والفرنسي، والاقتصادي " بول كورغمان " الحاصل على جائزة نوبل.
السيناريو الثاني: يتمثل في استمرار البنك المركزي الأوروبي في قطع السيولة النقدية عن البنوك اليونانية، وعدم التوصل مع الحكومة اليونانية إلى اتفاق، بسبب الخوف من تشجيع بلدان أخرى في الاتحاد الأوروبي مثل: البرتغال وأسبانيا وأيرلندا وسلوفاكيا وإيطاليا، والتي عليها ديون كبيرة وتتشابه ظروفها الاقتصادية مع ظروف اليونان إلى حد كبير، فتتبع نفس أسلوب اليونان، فتزداد الاحتجاجات الاجتماعية، ويتسع نطاق الأزمة، وهو ما يفاقم خسائر الاتحاد الأوروبي المالية والاقتصادية، ويهدد بانهيار اليورو.
السيناريو الثالث: أن تحصل الحكومة اليونانية على السيولة من المودعين، كخطة إنقاذ داخلية مشابهة لتلك التي طبقتها قبرص بعد قطع الأموال عن بنوكها من قبل البنك المركزي الأوروبي، وهو سيناريو مستبعد الحدوث.
النتائج المترتبة على سيناريوهات علاج الأزمة اليونانية
قبل الفراغ من كتابة هذا الجزء من المقال تناقلت وكالات الأنباء خبر توصل قادة منطقة اليورو بالإجماع لاتفاق على إنقاذ اليونان؛ وللوهلة الأولى فكرت أن أكتفي بعرض جزء النتائج المترتبة على الاتفاق الذي تم التوصل إليه اليوم 7/13/ 2015 أي الجزء الخاص بالسيناريو الأول، وعدم عرض النتائج المتعلقة بالسيناريو الثاني باعتبار أنها أصبحت من الماضي، ولكن سرعان ما تراجعت عن الفكرة بعدما أدركت أنه من غير المستبعد أن تكون النتائج المترتبة على السيناريو الثاني هي الأقرب إلى الحدوث في حال فشل نتائج السيناريو الأول، فقررت استكمال الفقرة دون إدخال تعديل عليها لأنها ربما قد تكون المستقبل فلا يعلم الغيب إلا الله.
من المفترض أن تكون نتائج السيناريو الأول ( الاتفاق الذي تم التوصل إليه ) تحقق أفضل المكاسب لطرفي الأزمة، وتحافظ على بقاء اليونان ضمن دول اليورو، وخاصة أن التصويت بلا كان على عدم القبول بإجراءات تقشفية جديدة وليس على الخروج من منطقة اليورو؛ ولكن على أرض الواقع غير منتظر أن ينفذ هذا السيناريو بهذه الصورة المثالية التي تراعي الجوانب التنموية والاجتماعية، لأنه وكما سبق القول أن النظام الرأسمالي يهدف إلى تعظيم الربح، كما أن طبيعة عمل البنوك لا تجعلها معنية بالعملية التنموية أو بالبعد الاجتماعي بقدر الاهتمام بمعدل سعر الفائدة، ومدى كفاية الضمانات المقدمة بل وزيادتها عن مبالغ القروض الممنوحة.
لذا وفي تصوري المتواضع أنه عند التنفيذ سيتم إعلامياً إظهار أن الاتحاد الأوروبي والبنوك احترموا تصويت اليونانيين وقدموا خطة إنقاذ طموحة تحقق الازدهار وتحافظ على مستوى لائق وكريم من الخدمات الاجتماعية لليونانيين، وفي الحقيقة هي خطة تقشفية بأعباء إضافية ولكنها أقل تشدداً من سابقتها، بحيث تشتمل على فترة سماح ومدة سداد أطول.
السيناريو بهذا الشكل هو تأجيل للأزمة وليس علاج لها، لأن محصلته النهائية لا تختلف عن ما تم رفضه في التصويت، وستظهر الأزمة وبصورة أشد في مرحلة قريبة لاحقة بعد إنتهاء التسهيلات الشكلية التي سينص عليها في خطة الإنقاذ الثالثة، وفي الحقيقة لن تخسر اليونان المزيد لأنها وإن زادت ديونها ستحصل على بعض الأموال التي تخفف بها الضغط مرحلياً عن المواطنين، وفي النهاية إذا عجزت عن السداد سيتم التعامل معها باعتبارها دولة مفلسة أو غير قادرة على السداد بصرف النظر عن حجم الديون.
من غير المستبعد أن تكون نتائج السيناريو الثاني هي الأقرب للحدوث في المستقبل القريب في حال الفشل المتوقع لنتائج السيناريو الأول، لأن المزيد من الاقراض تبعاً للسيناريو الأول يفاقم الأزمة ولا يحلها، كما أن ألمانيا المسيطرة على البنك المركزي الأوروبي وصاحبة الكلمة الفصل فيه؛ تخشى من امتداد عدوى التمرد إلى دول أخرى داخل منطقة اليورو، وبالتالي لن تقبل بأي تنازلات حتى وإن كانت شكلية وستقف حجر عثره في تقديم أي مزايا للمفاوض اليوناني الذي وضعها في مواجهة مباشرة مع المواطنين اليونانيين، وستعمل على معاقبته بإعادة تصدير المشكلة إليه بأن تضعه في مواجهة مباشرة من ناخبيه في أقرب فرصة تتعثر فيها المفاوضات بشأن خطة التقشف اللاحقة للاتفاق، وبذلك يتم خروج اليونان من منطقة اليورو، وهو ما يعني عدم ضخ المزيد من السيولة النقدية للبنوك اليونانية، وبذلك ستضطر الحكومة اليونانية إلى العودة إلى إصدار عملتها المحلية السابقة " الدراخمة " لتغطية حاجات السوق التجارية والاقتصادية والنقدية.
وسيترتب على ذلك أن تمر اليونان بأزمة حقيقية لمدة سنتين على الأقل، وسيكون هناك شبه توقف كامل لحركة التجارة وكل أنواع التعاملات مع الأسواق العالمية، وستنخض قيمة الدراخمة، وستشهد الفوائد ارتفاعاً حاداً يؤدي إلى غلاء فاحش، وزيادة مستوى التضخم، وانخفاض الناتج القومي، وسيقود هذا إلى إغلاق محلات وشركات ومنشآت تجارية وستصبح البطالة خانقة. ولكن رغم كل هذه الأضرار لن يكون وضع اليونانيين أسوأ مما هم عليه الآن.
اليونان ضحية وليست الجاني
الكثير من وسائل الإعلام والاقتصاديون يروجون أن الشعب اليوناني اعتاد على العيش فوق طاقاته ومدخولاته بمعنى أنه يستهلك أكثر مما ينتج؛ وينفق أكثر من دخلة؛ ويغطي الفرق عن طريق الاقتراض من الدول الأخرى، ويحملون نظام التأمينات الصحية والتقاعد والإنفاق غير الرشيد - بتقديم ميزات مبالغ فيها للمواطنين - مسئولية أزمة اليونان. ويصورون أن الأزمة الاقتصادية في اليونان سببها إنفاق الحكومة كثيراً من الأموال حتى أفلست، وأن البنوك الكريمة والرحيمة ساعدتها ومنحتها المال، لكن سوء إدارة الدولة لها أسقطها في فخ الديون.
وفي الحقيقة أن اليونان حكومة وشعباً، لا تتحمل الجزء الأكبر من وزر الأزمة الراهنة، يقول: " مارك بليت " أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة براون الأمريكية العريقة؛ في دورية " فورين أفيرز "، الصادرة عن " مجلس العلاقات الخارجية " الأميركي، أن البنوك الأوروبية مع بداية نظام عملة " اليورو " عام 1999 توسعت في إقراض اليونان؛ بصورة غير رشيدة سعياً للربح. ومنذ بدء خطط الإنقاذ للاقتصاد اليوناني في العام 2010، خصص الأوروبيون وصندوق النقد الدولي 230 مليار دولار لهذا الأمر. ولكن بحسب حسابات بليث، فإنّ 90 % من الأموال لم تصل إلى اليونان، بل وصلها 27 ملياراً فقط، فيما ذهب الباقي في الواقع للدائنين، وخصوصاً البنوك الألمانية والفرنسية لسداد الديون وفوائدها.
وأن أي شطب للديون، كان ضمن صفقات إقراض جديدة، تتضمن المزيد من الأرباح للبنوك والدائنين. ويتحدث بليث صراحة أن " القوميات " هي التي تحكم السلوك الأوروبي؛ فالألمان والفرنسيون يبحثون عن مصالحهم، والبنوك تتصرف كالمرابي الذي يستفيد من تعثر مدينيه، ويستعين بالحكومات لزيادة أرباحه، من دون أن يتحمل مسؤولية إقراض مدين متعثر أصلاً.
وفي نفس الإتجاه يطالب " جوزيف ستيغليتز " أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا - الحاصل على جائزة نوبل - البنك المركزي الأوروبي بإقراض اليونان ولعب دور " الملاذ الأخير "، في إشارة ضمنية إلى الاستياء من الاستمرار في إقراض اليونان على أسس تجارية من البنوك، من دون أن يلعب الأوروبيون دورهم ككيان موحد أو يتجه نحو الوحدة. ومن وجهة نظر ستيغليتز أن حكومة اليونان طبقت كل ما طُلب منها، وربما الاستثناء الوحيد هو الفشل في إجبار الأثرياء اليونانيين على دفع الضرائب المطلوبة منهم.
بعد ما تقدم ستظل أزمة الديون اليونانية ما لم تحل بشكل جذري إشكال حقيقي يواجه منطقة اليورو، نتيجة المخاوف المتزايدة من تفاقم الاحتجاجات الاجتماعية، وامتداد نطاق الأزمة إلى بلدان أخرى كالبرتغال وأسبانيا وأيرلندا وسلوفاكيا وإيطاليا، فالاتفاق الذي تم التوصل إليه ليس النهاية، وربما يكون البداية لأحداث اقتصادية كبيرة منها سقوط الأعضاء الضعفاء من الوحدة النقدية اليورو، أو سقوط اليورو ذاته، أو انتهاء حقبة الليبرالية المتوحشة.