لم أفهم من أول وهلة عنوان الخبر الذي ورد في الصفحة الأولى من جريدة المصري اليوم بتاريخ 27/9/2011 الذي يقول " التعليم " : من حق المدرسة أن تجود من خدماتها .. ولولي الأمر تحويل ابنه منها .
فبدأت أقرأ التفاصيل المنشورة على لسان مساعد الوزير الذي يعلن أنه في حال تحويل المحافظة إحدى المدارس من تجريبية عادية إلى مميزة ترتفع المصروفات , ويحق عندها لولى الأمر أن يقوم بالتحويل لابنه في إحدى المدارس التجريبية العادية دون زيادة في المصروفات أو البقاء على النظام الجديد للمدرسة والقرار لولي الأمر . فهل حقاً القرار لولي الأمر ؟!
التعليم حق كالماء والهواء
رحم الله الدكتور / طه حسين وزير المعارف العمومية منذ 60 عاماً , الذي لم يمنعه فقد بصره من أن يكون نافذ البصيرة في القلب والعقل , فأدرك المهمة الأساسية للوزارة التي كلف بها فقرر أن يكون التعليم حق كالماء والهواء , هذه العبارة المختصرة بالغة الأهمية تؤكد على أن التعليم من ضروريات الحياة القصوى التي لا يمكن للمواطن المصري الاستغناء عنها أو العيش بدونها كالماء والهواء , وما دام بهذه الأهمية فلا يمكن إلا أن يكون مجانياً .
نعم يجب أن يكون التعليم عمومياً وألزامياً ومجانياً يتمتع به الجميع دون تمييز , فلا ينبغي أن يكون التعليم مرهوناً بالمكانة الاجتماعية أو الثروة الشخصية بمعنى أنه من كان له مال تعلم ومن لا مال له حرم من التعليم , وبصورة أخرى من كان غنياً تمتع بتعليم راق ومن كان بسيط الحال أو فقيراً يحصل على تعليم ردئ .
يجب أن يعلم القائمين على التعليم في مصر أن تعليم المواطن المصري من مسئولية الدولة وله الأسبقية في سلم الأولويات القومية لأن بالعلم تنهض الأمم ألا يكفيهم أن أول مانزل من القرآن الكريم على النبي الأمي اليتيم الفقير صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } سورة العلق الآيات من 1- 5 .
قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآيات : يعني جل ثناؤه اقرأ يا محمد بذكر ربك الذي خلق , ثم بين الذي خلق فقال : خلق الإنسان من علق يعني : من الدم , اقرأ يا محمد وربك الأكرم الذي علم بالقلم خلقه للكتابة والخط , وقال قتادة : القلم نعمة من الله عظيمة , لولا ذلك لم يقم ولم يصلح عيش .
إلزامية ومجانية التعليم
أخذت أكثر الدول بإلزامية التعليم كمبدأ أساسي في تحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين والقضاء على الأمية التي تشكل عائقاً بوجه أي تقدم حضاري , وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل شخص الحق في التعليم , وأن التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل يجب أن يكون بالمجان , وأن التعليم الابتدائي يجب أن يكون إلزامياً , ويكون التعليم الفني والمهني متاحاً للعموم , ويكون التعليم العالي متاحاً للجميع تبعاً لكفاءتهم .
وإعلان حقوق الطفل ينص على أن للطفل الحق في الحصول على التعليم والذي يجب أن يكون إلزامياً ومجانياً في المرحلة الابتدائية على الأقل , وقد بادرت الكثير من الدول إلى وضع فقرات قانونية تمنع تشغيل الأحداث , وتدفع بعض الدول إعانات للعائلات الفقيرة لتعويضهم عن خسارة عدم اشتغال أطفالهم واستمرارهم في التعليم .
والدستور المصري ينص على أن التعليم حق تكفله الدولة وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية وتعمل الدولة على مد الإلزام إلى مراحل أخرى , وأن التعليم في مؤسسات الدولة التعليمية مجاني في مراحله المختلفة , ومحو الأمية واجب وطني تجند له كل طاقات الشعب لتحقيقه .
وفكرة التعليم الإلزامي منتشرة عبر التاريخ في كل الدول لعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وكان الدافع الأساسي لها في مختلف الأديان تعلم القراءة والكتابة من أجل دراسة الكتب السماوية والتعرف إلى ما جاء فيها من قيم أخلاقية وتأدية الشرائع .
تحويل التعليم إلى سلعة
أوضح مساعد وزير التربية والتعليم أن المدارس في مصر مقسمة إلى ثلاثة أنواع :
أولها : مدارس حكومية عادية تصل مصاريف السنة بها إلى 50 جنيهاً .
ثانيها : مدارس تجريبية وعددها نحو 800 مدرسة على مستوى الجمهورية وتصل المصاريف بها إلى 230 جنيهاً في التيرم .
ثالثها : مدارس تجريبية متميزة " المستقبل " وهي مدارس بها إمكانيات أكثر وكثافة طلاب أقل حيث لايزيد عدد الطلاب في الفصل الواحد على 25 طالباً ومصاريفها الدراسية 1200 جنيه .
هذا التقسيم بالغ الأهمية لأنه يبين أن تردي مستوى التعليم في مصر سببه توجه وزارة التربية والتعليم نحو تحويل التعليم من خدمة مجانية لا يمكن الاستغناء عنها إلى سلعة بمقابل .
إن تحويل التعليم إلى سلعة لها مقابل بدعوى رفع كفاءته يؤدي إلى إهدار مبدأ تكافؤ الفرص بين الطلبة , ويعمق التمييز بينهم على أساس القدرة المالية , ويفقد المؤسسة التعليمية حيادها تجاه الطلاب , ويؤثر على جودة التعليم , بمعنى أنه من يستطيع دفع مقابل لمباني مطابقة للمواصفات وبها فصول صالحة للتدريس ومجهزة بوسائط تعليمية وبها مدرسين يحصلون على رواتب مجزية سيحصل على مستوى تعليمي جيد , ومن لا يملك المال لدفع المقابل فعليه القبول بمدارس فصولها غير صالحة للتدريس وليس بها وسائط تعليمية والمدرسين ليس لديهم الدافع للتدريس لعدم كفاية المرتبات المدفوعة لهم .
يؤدي ذلك إلى عدم الحصول على تعليم أو في أحسن الحالات الحصول على مستوى تعليمي ردئ , تظهر نتائج ماتقدم عند الخروج إلى سوق العمل بعد التخرج ففي ظل اقتصاد السوق الذي يعزز المنافسة بين المتقدمين للوظائف ستكون الأفضلية للحاصلين على تعليم خاص وحرمان الحاصلين على تعليم حكومي من فرص العمل التي هي الهدف الأساسي من التعليم عبر مراحله المختلفة لسنوات طويلة .
وتكون النتيجة النهائية آثار اجتماعية سلبية تظهر في زيادة معدلات الفقر , والإحباط , والإدمان , والجريمة , والهجرة الشرعية وغير الشرعية إلى الخارج وتأثيراتها المدمرة على الحياة الأسرية التي تنعكس على المجتمع وتعيقه عن التقدم الحضاري .
بورصة التعليم في مصر
أدى تحول التعليم في مصر من حق يتمتع به الجميع دون تمييز لغنى أو فقر إلى سلعة لها مقابل إلى ظهور بورصة تعليمية حقيقية تعتمد على الظروف الاقتصادية لأولياء الأمور, فهناك من لا يجد أمامه سوي المدارس الحكومية بدرجاتها المخبدرجاتها المختلفة فالعادية للفقراء برسوم 50 جنيه , والتجريبية لمتوسطي الحال برسوم 230 جنيه , والمتميزة للميسورين قليلاً برسوم 1200جنيه , واللغات الخاصة للأغنياء بمصاريف من 5000 – 10000 جنيه , أما المدارس الدولية التي تطبق المناهج الأجنبية في التعليم والتدريس والأنشطة فللأثرياء فقط , ومصاريفها تبدأ من 30000 جنيه لمرحلة " كي جي " ترتفع إلى 35000 جنيه للمرحلة الابتدائية وتصل إلى 44000 جنيه للمرحلة الإعدادية وتتجاوز 54000 جنيه في المرحلة الثانوية .
هكذا أصبح من يملك يحصل على تعليم متميز , ومن لا يملك يدخل المدارس العادية , وفيما بينهما المدارس التجريبية , وقد قررت وزارة التربية والتعليم أن تدخل هي الأخرى بورصة التعليم لتضارب على ارتفاع قيمة رسوم المدارس العادية والتجريبية وخاصة أنها محتكرة لهذه الخدمة ولا يوجد من ينافسها في الأسعار .
ولا عجب في هذا التصرف فوزير التربية والتعليم من المهتمين بإدخال مفاهيم البورصة في المناهج الدراسية المختلفة لنشر الثقافة المالية بين الأجيال الحالية والقادمة , ووفقاً لهذا التوجه رأت الوزارة أن تعطي درساً عملياً للطلبة وأولياء الأمور عن كيفية التداول في البورصة بالمراهنة على رفع قيمة مصاريف المدارس ومن لا يقبل عليه أن يحول , فما كان من أولياء الأمور الذين لا يملكون أموال يغامرون بها في بورصة التعليم إلا أن أقاموا دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري , التي قضت بإلغاء قرار زيادة المصروفات وتحويل المدارس التجريبية إلى مميزة وما يترتب عليه من آثار .
ترتيب مصر في مؤشر التنافسية العالمية 2011/2012
يشمل مؤشر التنافسية العالمية 142 دولة منها 15 دولة عربية , وهو مؤشر مركب من ثلاث مجموعات من المؤشرات الفرعية يدخل التعليم كمكون أساسي في كل منها :
أولها : مؤشر المتطلبات الأساسية ويدخل في تكوينه جودة البنية التحتية , ومدى استقرار الاقتصاد الكلي , ومستوى الرعاية الصحية والتعليم الأساسي .
ثانيها : مؤشر معززات الكفاءة ويدخل في تكوينه مدى تطوير التدريب والتعليم العالي , ومدى فاعلية وكفاءة سوقي السلع والعمل .
ثالثها : مؤشر القدرة على الابتكار والتقدم العلمي والتقني والاهتمام بمجال البحوث والتطوير , والقدرة على تحويل الابتكارات إلى منتجات جديدة من خلال عمليات إنتاجية معقدة .
وتكمن أهمية المؤشر في أنه أداة لتسليط الضوء على نقاط القوة والضعف في الاقتصاديات علاوة على أنه إطار عام للحوار بين الحكومات ومجتمع الأعمال ومؤسسات العمل المدني , ومن المؤسف أن ترتيب مصر تراجع إلى المركز 94 بعد دول عربية شقيقة كانت مصر سابقة لها في مجال التعليم , حيث تأتي قطر في المركز 17 , والسعودية 21 , والإمارات 25 , وتونس 32 , وعمان 34 , والكويت 35 , والبحرين 37 , فالأردن 65 , ثم المغرب 75 .
وأوضح التقرير الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي أن من الأسباب الرئيسية لتراجع ترتيب مصر القصور في الهيكل المؤسسي للتعليم الأساسي من حيث مدى جودة وكفاءة المدارس والمناهج التعليمية , وكذلك انخفاض كفاءة التعليم العالي والبحث العلمي , وبين التقرير أنه مازالت هناك حاجة إلى إعادة النظر في مناهج العلوم والرياضيات في التعليم العالي , ومدى جودة كليات الإدارة أو الأعمال , كما أشار التقرير إلى أن زيادة الاستثمار في التعليم العالي وتفعيل التدريب بحاجة إلى مراجعة بهدف تحسين جودة النظام التعليمي ونظم تدريب الأفراد في منشآت الأعمال .
لا تلوموا كثرتنا ولا تتهموا فقرنا
عند حدوث أي خطأ في الأداء الحكومي أو فشل في حل مشاكل المواطنين أو الانهيار في مستوى الخدمات المقدمة لهم , يتهرب المسئولين من الاتهامات الموجهة لهم بإلقاء اللوم على كثرة عددنا أو اتهام فقرنا بأنه السبب في تدني الخدمات .
فرجاء لا تلوموا كثرة عددنا وتعتبروه نقمة , لأن كثرة العدد تمثل زيادة في الموارد البشرية , وإذا أردتم التأكد من ذلك أنظروا إلى الصين فتعدادها يقرب من 1,5 مليار نسمة ومع هذا تحتل المركز الثاني في قائمة الاقتصاد العالمي , والمركز الأول في قائمة الاستثمارات الخارجية حيث تجاوزت استثماراتها 3 تريليون دولار .
ولا تتهموا فقرنا لأنه ناتج عن الفساد وإهدار الموارد , وهناك دول كثيرة لديها مشاكل اقتصادية ضخمة تهدد بإفلاسها مثل أمريكا واليونان وأسبانيا ودول أخرى أفلست مثل أيسلندا , واستتبع ذلك تخفيض الإنفاق وإعلان خطط تقشفية في هذه الدول , ومع هذا مستوى التعليم لم ينخفض لديهم , وبريطانيا حينما رفعت مصاريف التعليم الجامعي قامت بها احتجاجات وأعمال شغب شهدها العالم أجمع وكادت تطيح بالحكومة , ذلك لأن التعليم من وجهة نظرهم حق لا يجب أن يمس أو يتأثر مستواه بسبب ارتفاع التكلفة على الدولة .
حل مشكلة التعليم في مصر
التعليم في مصر يواجه مشكلات عديدة أهمها قلة أعداد المدارس بالإضافة إلى عدم صلاحية فصولها للدراسة , وارتفاع كثافة التلاميذ بالفصول , والاعتماد على طرق التدريس التقليدية , وانتشار ظاهرة الدروس الخصوصية , وغياب التنمية المهنية للمدرسين , وارتفاع نسبة العاملين بالجهاز الإداري مقارنة بالمدرسين , وضعف قدرة الإدارة المدرسية على تجويد العملية التعليمية , والارتفاع الكبير في نسب النجاح , والمجاميع المرتفعة التي لاتعبر عن المستوى الحقيقي للطلاب ولا تتناسب مع سوق العمل , هذا بالإضافة إلى قصور التمويل الحكومي للوفاء باحتياجات عملية الإصلاح التعليمي .
ليس عيباً أن يكون لدينا مشاكل في التعليم , وليس عيباً أن نفتقد الخبرة العملية لحلها , لكن من العيب أن نلقي باللوم على الظروف الاقتصادية وكأنها قدر لايغير , أو أن نقصر في القيام بمسئولياتنا تجاه حل المشاكل ثم ندعي بأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان .
حل مشكلة التعليم في مصر تبدأ بأن يعيد المسئولين عن الدولة للتعليم مكانته السامية كحق مجاني لكل أفراد المجتمع كما ينص على ذلك الدستور والمواثيق الدولية , وألا يتعاملوا معه كسلعة لها مقابل , وأن يوفروا التمويل الحكومي اللازم لعملية إصلاح التعليم , وأن يستعينوا بالمتخصصين وأهل الخبرة في وضع السياسات التعليمية الواضحة باتفاق ومشاركة المجتمع بكافة مؤسساته , ويكون وزير التعليم مسئولاً عن تنفيذ السياسة التعليمية للدولة بمتابعة ومراقبة من مؤسسات المجتمع المدني .
عبد الفتاح محمد صلاح
مشرف موقع الاقتصاد العادل