في أربع مقالات سابقة معنونة بـ " مدخل لدراسة الاقتصاد الإسلامي " بينَا خطأ مقولة أن المذهب الاقتصادي الإسلامي يعتمد في فلسفته ومبادئه وأدواته التطبيقية على المذهب الاقتصادي الفردي أو الجماعي أو المختلط بينهما؛ كما بينَا خطأ مقولة أن النظام الاقتصادي الإسلامي مزاج مركب يجمع بين الرأسمالية والاشتراكية يأخذ من كل منهما جانباً، أو أنه نظام مختلط يجمع بين آليات اقتصاد السوق كما في النظام الرأسمالي، وآليات تدخل الدولة في الأسواق كما في النظام الشيوعي.
وأوضحنا أن الاستخلاف هو أصل المذهب الاقتصادي الإسلامي الذي ينفرد بنظرة اقتصادية عقـائديـة تنبني على كون الإنسان مستخلف من الله في الأرض كما جاء في قوله تعالى: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " البقرة 30؛ والخلافة في الأرض تكون لعمارتها واستثمار خيراتها التي سخرها الله له لقوله تعالى: " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " هود 61.
وأن الإنسان وهو يمارس دوره في عمارة الأرض عليه أن يأتمر بأوامر الله وينتهي عن نواهيه لقوله تعالى: " أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ " الأعراف 54، وبذلك يتم الجمع بين الروح والمادة في الاقتصاد، فتنشأ خاصية الإحساس بالله تعالى ومراقبته في كل نشاط اقتصادي، وذلك بهدف إقامة مجتمع المتقين لتحقيق الغاية الأسمى وهي العبودية لله لقوله تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ " الذاريات 56.
وأوضحنا أن المذهب الاقتصادي الاستخلافي له مجموعة من الأسس التي تعبر عن فلسفته وتمثل الإطار الحاكم للنظام الاقتصادي الإسلامي التطبيقي المنبثق عنه، وهي تختلف تماماً عن فلسفات الأنظمة الاقتصادية الأخرى؛ وهذه الأسس هي: تكريم الإنسان، والمساواة بين الناس، والتسخير والتذليل، والتكليف بالعمل، والإحسان والرقابة الدائمة، والأفق الزمني للنتائج.
وينبع من هذه الأسس مجموعة من المبادئ التي تمثل أطر ومحددات يجب أن تعمل وسائل أو أدوات " آليات " النظام الاقتصادي الإسلامي التنفيذية على الالتزام بها دوماً عند التطبيق؛ وهذه المبادئ هي: حرية التملك، والحرية الاقتصادية، والوسطية، والعدالة، والتكامل والترابط.
يرافق هذه المبادئ ويغلفها مجموعة قيم أخلاقية تعتبر من أهم سمات النظام الاقتصادي الإسلامي التي ينفرد بها عن غيره من الأنظمة الأخرى، فحسن الخلق هو الوجه الحضاري للإسلام؛ وترسيخ الأخلاق في المجتمع هي رسالة الإسلام الأساسية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " رواه البخاري. ويؤكد ذلك أن الله سبحانه وتعالى أثنى على نبيه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق في قوله تعالى: " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " القلم 4. ومن هذه القيم الأخلاقية: الصدق، الأمانة، التلطف، الإيثار، التسامح، حسن الوفاء، الفضل والإحسان، كظم الغيظ والعفو، إمهال المعسر، التكافل.
وبينَا أنه لكي يحقق الاقتصاد الإسلامي النتائج المرجوة منه في واقع الحياة الاقتصادية فإنه يجب الالتزام عند التطبيق بأسس ومبادئ وأخلاقيات النظام الاقتصادي الإسلامي بصورة كاملة لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً " البقرة 208.
واستكمالاً لما تم تقديمه في المقالات السابقة؛ وأظهر حقيقة وجود مذهب اقتصادي إسلامي متميز ومتفرد عن المذاهب الاقتصادية الأخرى، سأتناول في هذه المجموعة من المقالات عناصر النشاط الاقتصادي من: إنتاج، وتوزيع، واستهلاك، وادخار، واستثمار من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي.
مفهوم النشاط الاقتصادي
النشاط الاقتصادي عبارة عن مجموعة من الأفعال والمجهودات التي يبذلها كل فرد في المجتمع في شتى الوحدات الاقتصادية التي تتكون منها القطاعات الاقتصادية المختلفة: الزراعية، والصناعية، والتجارية، والتعدينية، والخدمية، ... وغيرها من القطاعات؛ وذلك فيما يخص: الإنتاج - التوزيع - الاستهلاك - الادخار - الاستثمار؛ وذلك بهدف إشباع حاجات الفرد ومن يعول أو الحصول على الأموال والخدمات.
أقسام الإنتاج
تنقسم الحرف الإنتاجية وفقاً لموسوعة الجغرافية المصغرة إلى ثلاث مجموعات هي:
1- حرف بدائية: ويقصد بها الحرف التي يمارسها الإنسان من أجل الحصول على حاجاته من الخامات الأولية من الطبيعة، وتشمل حرف الجمع، والرعي، والصيد، والزراعة، والتعدين.
2- حرف التصنيع: وتعني الحرف التحويلية التي تزيد من قيمة الخامات الأولية التي حصل عليها الإنسان من الطبيعة بتحويلها في المصانع من أشكالها الأولية إلى أشكال تتفق مع الاحتياجات المتعددة والمتطورة للإنسان كتحويل القمح إلى دقيق، وخامات الحديد إلى ألواح من الصلب، وخشب الأشجار إلى أثاث ... إلى غير ذلك من الصناعات التحويلية.
3- حرف الخدمات: ويقصد بها كافة الخدمات من مياه، وكهرباء، وصرف، وطرق، وتعليم، وصحة، وترفيه، ونقل، وصيانة ... وكلها خدمات تؤدي دوراً رئيسياً في العمليات الإنتاجية.
عناصر الإنتاج
الاقتصاديين التقليديين يرون أن عناصر الإنتاج هي: العمل ( المجهود البشري )، والأرض ( الموارد الطبيعية )، ورأس المال. والاقتصاديين المحدثين يرون أن عناصر الإنتاج هي: العمل، والأرض، ورأس المال، والتكنولوجيا، والتنظيم.
وفي تصوري أنه يوجد عنصرين أساسيين للإنتاج هما: الموارد الطبيعية التي خلقها الله للبشر دون دخل للإنسان في وجودها، وتتمثل في كل الثروات المخلوقة في صورتها البدائية؛ سواء أكانت يابسة أم مائية وما فوقهما وما تحتهما كالنبات والحيوان والبترول والمناجم ... إلى غير ذلك، والمجهود العقلي والبدني المبذول من الإنسان الذي خلقة الله وكلفه بالعمل للاستفادة من الموارد الطبيعية التي سخرها الله له ليقوم بواجب الاستخلاف من عمارة الأرض وتوحيد الله وعبادته، وما عداهما عناصرمصنوعة من اختلاط الجهد البشري بالموارد الطبيعية؛ فإذا كانت الموارد الطبيعية مسخرة ومذللة للإنسان بإرادة الله كما جاء في قوله تعالى: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ " إبراهيم 32- 34. وذلل الأنعام قال تعالى: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ " يس 71- 73. يكون العمل ( المجهود البشري العقلي والعضلي )هو العنصر الوحيد الإيجابي والفاعل في العملية لإنتاجية.
ولا عجب في ذلك فإن من تكريم الله للإنسان تكليفه بالعمل قال تعالى: " وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ " التوبة 105؛ وليس أي عمل وإنما العمل الصالح ليقوم بواجب الاستخلاف في عمارة الأرض ليلبي حاجات نفسه ومن يعول، فيتحرر من سؤال الناس، ولا يكون لأحد سلطان عليه إلا الله، والقرآن الكريم يذخر بالآيات التي تقرن بين الإيمان والعمل الصالح، وفي ذلك دلالة واضحة على أن اﻻﺴﺘﺨﻼﻑ ﻭﺍﻟﺘﻤﻜﻴﻥ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ لا يتأتى إلا ﻟﻤﻥ ﺠﻤﻊ ﺒﻴﻥ ﺍﻹﻴﻤﺎﻥ ﻭﺍﻟﻌﻤل ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ، قال تعالى: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا " النور55.
الاقتصاد الإسلامي معني بالإنتاج القيمي لا العبثي
من المعلوم أن مفهوم النشاط الاقتصادي وعناصره، والقطاعات الاقتصادية، وأقسام الإنتاج، وعناصر الإنتاج، والهدف المتمثل في إشباع حاجات البشر الدنيوية، والحصول على الخدمات تتشابه إلى حد كبير في جميع المذاهب والأنظمة الاقتصادية؛ ولكن النشاط الاقتصادي الإسلامي يتمايز عن غيره من الأنشطة الاقتصادية من حيث الغاية النهائية والوسيلة المتبعة في القيام بعناصر النشاط الاقتصادي، وهذا هو محور مقالات عناصر النشاط الاقتصادي.
فحينما نقول أن الاقتصاد الإسلامي معني بالإنتاج القيمي لا العبثي؛ نقصد القيمي بمعنييه أي أن يكون للإنتاج قيمة مادية ونفعية لأفراد المجتمع، وفي ذات الوقت يراعي القيم الدينية والأخلاقية للمجتمع، وألا يكون بغرض التباهي والتفاخر والتعالي على الناس وظلمهم والبطش بهم. قال تعالى: " كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ " الشعراء 123- 135.
جاء في التفاسير أن هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه السلام، أنه دعا قومه عاداً، وكانوا قوماً يسكنون الأحقاف القريبة من حضر موت المتاخمة لليمن، وكان زمانهم بعد قوم نوح، قال تعالى: " وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " الأعراف 69. وكانت عاد قد بلغوا مبلغاً عظيماً من البأس وعظم السلطان والتغلب والبطش على البلاد؛ مما أثار قولهم الذي أثبته الله تعالى لهم في كتابه الكريم في قوله تعالى: " فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً " فصلت 15. فلما رأى هود من قومه انشغالهم بأمور دنياهم، وإعراضهم عن التفكر في الآخرة والعمل لها والنظر في العاقبة، وإشراكاً مع الله في إلهيته، وانصرافاً عن عبادة الله وحده الذي خلقهم وأعمرهم في الأرض وزادهم قوة على الأمم، فانصرفت هماتهم إلى التعاظم والتفاخر واللهو واللعب والبطش؛ قال لهم مستنكراً: " أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ". والريع هو المكان المرتفع والطريق بين الجبلين. والمعنى: أتبنون هناك حصون وقصور وبناءً محكماً باهراً هائلاً ليكون معلماً مشهوراً؛ وتفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه؛ بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة؛ ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك؛ لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان وإهدار للموارد التي خلقها الله في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا الآخرة.
ثم قال لهم : " وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ "، والمصانع: هي القصور والبروج المشيدة، وقيل هي الجابية المحفورة في الأرض ويسمى صهريجاً يخزن بها ماء المطر. والمعنى: أنه استمر في إنكاره لأعمالهم التي كانت نافعة عندما أريد بها رضى الله تعالى بنفع عبيده؛ فلما أُهمل إرضاء الله تعالى بها، واتُخذت للرياء والغرور بالعظمة والإعراض عن التوحيد وعن عبادة الله انقلبت عظمة دنيوية محضة، لا ينظر فيها إلى جانب النفع، ولا تحث الناس على الاقتداء في تأسيس أمثالها، وقصاراها التمدح بما وجدوه منها فصار وجودها شبيهاً بالعبث؛ لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة فلا عبرة عند الله بها؛ لأن الله خلق هذا العالم ليكون مظهر عبادته وطاعته. وأصبح الإعراض عن الآخرة والاقتصار على التزود للحياة الدنيا بمنزلة من يحسبون أنفسهم خالدين في الدنيا، وليس ذلك بحاصل لأنه زائل عنهم كما زال عمن كان قبلهم.
إيضاح واجب
حتى لا يتطرق إلى نفس القارئ الكريم أن الأعمال التي قامت بها عاد من بناء أعلاماً ومنارات في طرق أسفارهم تدل على الطريق كيلا يضل السائرون في تلك الرمال المتنقلة التي لا تبقى فيها آثار السائرين، وكذلك حفر الصهاريج لتجمع ماء المطر في الشتاء ليشرب منها المسافرون وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار، وبناء الحصون والقصور على المرتفع من الأرض، وهي مما لا شك فيه من الأعمال النافعة في ذاتها؛ لأن فيها حفظ الناس من الهلاك في الفيافي بضلال الطرق، ومن الهلكة عطشاً إذا فقدوا الماء وقت الحاجة إليه أعمال مُنكرة، نبين أن المقصود هو إنكار الغاية والوسيلة من وراء تلك الأعمال وليس الأعمال ذاتها.
فقوم عاد حين طال عليهم الأمد، افتقدت أعمالهم النافعة مراعاة المقاصد التي ترضي الله تعالى، واختلفت مشارب عامليها طرائق قددا على اختلاف الهمم واجتلاب المصالح الخاصة؛ فتفننوا في إرضاء الهوى، وأقبلوا على الملذات، واشتد الغرور بأنفسهم، وظلموا وبطشوا، فأضاعوا الجانب الأهم للإنسان وهو جانب الدين وزكاء النفس، وأهملوا أن يقصدوا من أعمالهم المقاصد النافعة ونية إرضاء الله على أعمالهم لحب الرئاسة والسمعة، فعبدوا غير الله، واستخفوا بجانب الله تعالى، واستحمقوا الناصحين، وهذا هو ما أنكره عليهم رسولهم.
يؤكد هذا المعنى ما رُوي عن أبا الدرداء رضي الله عنه، أنه لما رأى ما أحدث المسلمون في غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون! ألا تستحيون! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتُأملُون ما لا تدركون، إنه كانت قبلكم قرون، يجمعون فيرعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غروراً، وأصبح جمعهم بوراً، وأصبحت مساكنهم قبوراً، ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً وركاباً، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟.
مواصفات العمل المنتج في الاقتصاد الإسلامي
المذهب الاقتصادي الإسلامي المبني على الاستخلاف وعمارة الأرض من غير إثم ولا عدوان، لا يرضى للمسلم أن يكون عاطلاً غير منتج، ولا أن يكون مهدراً للموارد بإنتاج ما لا فائدة منه أو ما يزيد عن الحاجة، أو إنتاج ما هو محرم أو ضار، أو أن تكون كثرة الإنتاج وتنوعه سبباً في الإعراض عن عبادة الله، أو في الظلم والبطش لعباد الله، وإنما يحض على العمل والإنتاج في مختلف أقسام الإنتاج لعمارة الأرض وعبادة الله، وقد خاطب الله رسله وأنبياءه بقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " المؤمنون 51. ولأن أنبياء الله صلوات الله عليهم أجمعين وظيفتهم الأساسية دعوة الناس لعبادة الله وحده، وهم لا يتقاضون على ذلك أجراً من البشر، فشعار الأنبياء جميعاً جاء في قوله تعالى: " وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ " الشعراء 127. لذلك فإنهم جميعاً صلوات الله عليهم عملوا وكدوا وامتهنوا كافة الحرف البدائية والتصنيعية والخدمية ليتكسبوا، فآدم أبو البشر كان مزارعاً، وإدريس كان خياطاً، ونوح كان نجاراً يصنع المراكب، وكان خليل الله إبراهيم بناء وهو الذي بنى الكعبة، وإسماعيل كان يمتهن القنص ( الصيد )، وإلياس كان نساجاً، وداود كان حداداً يصنع الدروع، ويوسف كان اقتصادياً وخازناً للمالية، وكان إسحاق ويعقوب وشعيب وموسى رعاة للغنم، وعيسى ابن مريم كان يعمل بالطب، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان راعياً للغنم ثم تاجراً.
فالمطلوب في العمل المنتج في الاقتصاد الإسلامي أن يتفق مع التعاليم الإسلامية، ليتحول من مجرد عمل يتحصل منه العامل على أجر ثمن لمجهوده في العملية الإنتاجية؛ إلى عبادة تؤدى بنية صالحة بصرف النظر عن الأجر ومدى كفايته لتلبية حاجات العامل، يؤكد ذلك ما قاله كعب بن عجرة: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان " رواه الطبراني.
فالمنهج الاقتصادي الإسلامي يحرص على أن يكون جميع أفراد المجتمع منتجين، وإن لم يتحقق لهم نفع مادِي في حياتِهم، باعتبار أن هناك أفق زمني للنتائج، وأن الدنيا مهما طالت هي في النهاية مزرعة الآخرة، وإن ما عند الله خيرٌ وأبقى، يؤكد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها " الأدب المفرد للبخاري. يقول د. القرضاوي: وقد يسأل سائل بقوله: ما الفائدة من غرس الفسيلة والساعة قائمة؟ ويعقب قائلاً: قد لا أجد أجمل مما أورده أحد العلماء المعاصرين للإجابة عن ذلك: بأنه تكريم للعمل الذي يتعبد به المسلم لربه، والعبادة ليس لها أجل تقف عنده؛ لقوله تعالى: " وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ " الحجر 99.
يقول د. قاسم الحموري: ولا ريب أن هذا بحد ذاته حافز قوي للإقبال على العمل والإنتاج، لا يدركه إلا ذوو البصائر، الأمر الذي يمكن معه القول بأن تلك الصفة التعبدية للنشاط الاقتصادي في الإسلام لها أثرها الإيجابي في زيادة عرض العمل في الاقتصاد الإسلامي، ومن ثم زيادة الإنتاج من السلع والخدمات، نتيجة تهافت أفراد المجتمع المسلم على العمل، دون التأثر بشكل كبير بتقلبات الأجور المالية، ما دام المسلم يعمل ابتغاء ثواب الدنيا ( العائد المادي )، وثواب الآخرة ( جنة عرضها السماوات والأرض )، وذلك مما يسهم في القضاء على البطالة الاختيارية، وفي كبح جماح التضخم الذي يسود الاقتصاديات المعاصرة.