للنظام الاقتصادي الإسلامي أدوات مالية كثيرة بعضها إلزامي وبعضها تطوعي , وتتكامل هذه الأدوات الإلزامية والتطوعية فيما بينها في تناغم تام , لتقوم بدورها في حل جميع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في الدولة الحديثة .
فإذا كانت الزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام , والعبادة الرابعة من العبادات كالصلاة والصيام والحج , وهي أهم أداة مالية إلزامية من أدوات النظام الاقتصادي الإسلامي , وليست مجرد إحسان فردي حسب رغبة الإنسان , والدولة مسئولة عن جمعها وإنفاقها في مصارفها , وتتجلى هذه المسئولية في الأمر الموجه من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم باعتباره قائد الدولة الإسلامية الأولى فى قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } التوبة 103 .
فإن الوقف يعتبر أهم صدقة مالية تطوعية لها صفة الثبات والاستمرار , وهو أداة من أدوات النظام المالي في الاقتصاد الإسلامي تعمل على تأكيد الهوية الإسلامية , وتحقيق المقاصد الشرعية المتمثلة في حفظ الدين , وحفظ النفس , وحفظ النسل , وحفظ المال , وحفظ العقل , والوقف له آثار تنموية شاملة على أفراد المجتمع , دينياً , واجتماعياً , وثقافياً , واقتصادياً .
فالوقف دليل على صدق عقيدة المسلم وإيمانه باستخلاف الحق سبحانه وتعالى له على مابين يديه من ثروة عقارية ومنقولة , والإيمانبالآثار التنموية للوقف يدفع المسلم للتنازل عن شطر من أمواله في سبيل تنمية أوجه البر والخير التي يرغب فيها , وهو في سبيل ذلك يتحمل مسئولية تحديد أحكام الوقف وأركانه بصورة مفصلة تضمن استمراره في أداء رسالته في المجتمع بعد انقضاء حياة الواقف , وحتى يرث الله الأرض ومن عليها .
مفهوم الوقف ومشروعيته
الوقف هو حبس العين فلا يتصرف فيها بالبيع , أو الرهن , أو الهبة , ولا تنتقل بالميراث , والمنفعة أو الغلة التي تتحقق عنها تصرف لجهات الوقف على مقتضى شروط الواقفين .
الوقف عند الجمهور غير الحنفية سنة مندوب إليها وهو جائز ومشروع بالنصوص العامة للقرآن الكريم الداعية إلى الإنفاق والتطوع كما جاء في قوله تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وما تُنْفِقُوا مِنْ شَيئٍ فَإنَّ اللهَ بِهِ عَليم ٌ} آل عمران 92 . وبالسنة النبوية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم , والصدقة الجارية في الحديث محمولة على الوقف عند العلماء لأن غيره من الصدقات ليست جارية . وبالإجماع لصدور الوقفمن الصحابة جميعاً رضوان الله عليهم من غير نكير .
أنواع الوقف
يقسم العلماء الوقف بالنظر إلى الغرض منه , أو المنتفعين به , أو بحسب الجهة التي وقف عليها ابتداء إلى نوعين :
•وقف خيري : يقصد به الواقف التصدق على وجوه البر , سواء أكان على أشخاص معينين كالفقراء والمساكين والعجزة , أم على جهة من جهات البر العامة كالمساجد والمستشفيات والمدارس وحفر الأبار وصيانتها مما ينعكس نفعه على المجتمع .
•وقف أهلي أو ذري : وهو ماجعل استحقاق الريع فيه إلى الواقف أولاً ثم إلى أولاده وذريته , ثم من بعدهم على جهة بر خيرية لا تنقطع يتم تعيينها لتستحق غلة الوقف بعد انقطاع الشخص أو الأشخاص المسمين .
تاريخ الوقف
للوقف تاريخ طويل ومشرف بداية من عصر النبوة , حيث كان أول وقف هو وقف النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء عند قدومه مهاجراً إلى المدينة المنورة , ثم أوقف بعد ذلك سبع حوائط " بساتين " بالمدينة والمعروفة ببساتين مخيريق .
كما أوقف كثير من الصحابة رضوان الله عليهم مثل : وقف عمر بن الخطاب لأرضه التي بخيبر , ووقف عثمان بن عفان الشهير لبئر رومة , ووقف أبو طلحة لبستانه " بيرحاء " .
في العصر الأموي ومع اتساع الفتوحات الإسلامية زادت الأوقاف , وتم إنشاء إدارة خاصة للإشراف عليها غير تابعة للسلطة التنفيذية , وتخضع لإشراف السلطة القضائية مباشرة .
في العصر العباسي ازداد التوسع في الأوقاف ومع هذا ظل ديوان الوقف مؤسسة أهلية مستقلة عن الدواوين السلطانية , وكان أهم مايميزالأوقاف في هذه الفترة التوسع في مصارف ريع الوقف لتشمل الأوقاف الحضارية كالمستشفيات والمكتبات ودور الترجمة والمدارس , ليس هذا فحسب بل تعدت ذلك لتغطي مختلف جوانب الحياة لدرجة وجود أوقاف يصرف من ريعها على رعاية البهائم وإصلاح الأواني وإقامة الحدائق والنوافير ونحو ذلك من الأمور الفريدة .
وفي عصر المماليك ازداد التوسع في الأوقاف بشكل ملحوظ وأنشئت ثلاثة دواوين للإدارة والإشراف على الأوقاف هي : ديوان لأحباس " أوقاف " المساجد , وديوان لأحباس الحرمين الشريفين وجهات البر المختلفة , وديوان للأوقاف الأهلية .
في العصر العثماني تم الاعتناء بالأوقاف بدرجة كبيرة وبخاصة عند نساء بني عثمان , وتوسعت مصارف ريع الوقف لتشمل كليات الطب والخدمات الطبية لمستشفيات قائمة , وذلك مواكبة للتطور والتقدم العلمي في العصور الحديثة .
أما في العصر الحاضر فقد انتهى الحال إلى إلغاء كل من الوقف الأهلي والوقف الخيري في العديد من الدول الإسلامية , ولم يبق منالأوقاف الخيرية إلا وقف المساجد الذي تختص به وزارات الأوقاف الرسمية , والأخطر من ذلك هو صدور قوانين أباحت الاستيلاء على أموال الأوقاف بالكامل وإدماجها في أملاك الدولة , وعدم الصرف منها على ما خصصت له يستوي في ذلك الأوقاف الأهلية والأوقاف الخيرية , فأغلقت بذلك مؤسسة اقتصادية واجتماعية ساهمت في تنمية المجتمع في عصور الحضارة الإسلامية .
رد الشبهات عن الوقف
أن التفكير في إنهاء الأوقاف وخاصة الأهلية منها ليس وليد عصرنا , حيث كثر الجدل حوله وأقيمت المناظرات بشأنة على مدار سنوات التاريخ , وقد كان مدخل أبي حنيفة مدخلاً فقهياً , حيث رأى أن نظام الملكية الذي ينتجه الوقف لا يندرج في نظم الملكية المعروفة شرعاً , إلا أن موقف أبي حنيفة لم يثبت في التطبيق العملي لمخالفته ماكان عليه الصحابة الكرام - بعد أوقاف الرسول صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه - ومن تابعهم من التابعين , حيث وقفوا ما لا يحصى من الأموال وكان كثير من هذه الأحباس على الذرية وذوي القربى , فكان إجماعاً على جواز الوقف بنوعيه , حتى قال القرطبي : إن راد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه .
الأقلام المناهضة للوقف لا ترى إلا أن بعض الواقفين اتخذوا من جواز إيقاف الأموال العقارية والمنقولة على الأهل والذرية , ذريعة لمحاربة الميراث فحرموا البنات والزوجات أو بعضهم وجعلوه قسمة ضيزى , فانحرفوا بالوقف عن مقصد القربى فيه , وجعلوه أداة ليتحكموا في بعض التركة أو كلها بعد موتهم , وقد ظهر ذلك في آخر عصر الصحابة , وقد أستنكرت هذا الفعل أم المؤمنين عائشة , وهم عمر بن عبدالعزيز أن يرد صدقات الناس التي أخرجوا منها النساء , ولكن سبق إليه الموت فماتت معه فكرته .
أقلام أخرى أنبرت للهجوم على الوقف لأن بعض المستفيدين من الأوقاف بدخول منتظمة أصبحوا يركنون إلى حياة الترف والبطالة , وتفضيل حياة الكسل وامتلأت بهم المقاهي والحانات ودور اللهو , بدلاً من العمل والمساهمة في تنمية بلادهم واستثمار مواردها .
من التجاوزات التي بدلت محاسن الأوقاف فساد نظار ومديري الأوقاف , وقد أضاع ذلك العقارات والأراضي الموقوفة باستيلاء حائزيها عليها , فضلاً عن إهمال صيانتها وقلة غلتها .
للرد على شبهات المناهضين للوقف يجب التفرقة بين نقاء فكرة الوقف السامية , التي تهدف إلى تنمية قطاع اجتماعي ينهض بمجموعة من الأنشطة تدخل في إطار البر والإحسان والرحمة والتعاون وأعمال الخدمة الاجتماعية العامة , وذلك بإخراج جزء من الثروة الإنتاجية في المجتمع بعيداً عن دوافع الربحية والمنفعة الشخصية للقطاع الخاص , وبعيداً عن سطوة الدولة بممارسة قوة القانون على الأفراد , وبين التجاوزات التي تقع عند تطبيق الوقف من جانب الواقفين والمستفيدين والنظار .
فإذا كان الأمر كذلك والأخطاء والتجاوزات في سلوكيات الأفراد عند التطبيق وليس في الفكرة والأهداف , فإن التفكير السليم والمنصف يتطلب علاج الأخطاء وتصحيح التجاوزات , ليعود الوقف للقيام بدوره الإنساني والاجتماعي والاقتصادي الذي حقق أعظم النتائج في المجتمع على مر العصور , ومهما تكن المبررات فإنها لا تعطي لأحد الحق في إبطال الأوقاف الأهلية أو الخيرية , لأنها مجرد أهواء وأغراض تتصادم مع أحكام الشريعة الإسلامية .
ويعتبر أبرز رد على الشبهات الموجهة للوقف هو اقتباس الغرب له وتزايد عدد المؤسسات الوقفية الغربية ونمو أصولها المالية , ومن أشهرهذه المؤسسات مؤسسة " بيل وميليندا غيتس " الخيرية التي تأسست عام 2000 بتمويل قدره 126 مليون دولار , وقدرت أملاكها في عام 2007 بـ 37,6 مليار دولار , وتهدف إلى تعزيز الرعاية الصحية , والحد من الفقر , وتوسيع فرص التعليم والوصول إلى تكنولوجبا المعلومات على مستوى العالم .
دور الوقف في تحقيق التنمية الاجتماعية
التنمية الاجتماعية في المفهوم الإسلامي تعتمد بالدرجة الأولى على العنصر البشري لأنه ركيزة العملية التنموية وهدفها , وتحقيق التنمية البشرية يكون بتحقيق مقاصد الشريعة الخمس عند مستوى الكفاية اللائق بالإنسان الذي كرمه الله على العالمين , وقد أثبت الوقف على مر العصور , وبصرف النظر عن المستوى الاجتماعي والمعيشى للأفراد , وطبيعة الحكم السائد في كل عصر قدرته على تحقيق مقاصد الشريعة " الضرورية " للإنسان المتمثلة في :
حفظ الدين : بتشييد المساجد , وإقامة شعائر الصلاة , وتعليم العلم الشرعي لبناء الشخصية المسلمة الوسطية بعيدا عن الخرافات والدجل والشعوذة .
حفظ النفس : بصيانة حياة الإنسان من الهلاك بوقف جزء كبير من ريع أوقافهم لتوفير ضروريات حفظ النفس , من طعام وشراب وكساء وأماكن أيواء وعلاج للمحتاجين والمشردين , في صورة تكايا وملاجئ ومستشفيات خيرية بلا مقابل .
حفظ النسل : تجلت مساهمات الأوقاف في تحقيق غرض حفظ النسل , في مساعدة الفقراء وغير القادرين من الذكور والإناث على الزواج .
حفظ العقل : وذلك عن طريق التثقيف والتهذيب بالعلم والمعرفة وتحرير العقل من الجهل , وذلك بإنشاء المدارس والجامعات والمكتبات بالمجان للفقراء .
حفظ المال : فكثير من الواقفين يخصص جزء من ريع الوقف لتنميتة بشراء أعيان جديدة تضم إلى أصل الوقف , وكذلك تخصيص مبالغ لصيانة وإصلاح وترميم الوقف .
لم يتوقف دورالوقف عند تحقيق الحاجات الضرورية للإنسان , بل تخطاها ليغطي " الحاجيات " ليرفع المشقة والعناء والحرج عن الإنسان , فكثيراً من الأوقاف خصص ريعها للإنفاق على تمهيد الطرقات , وشق الترع , وبناء السدود , وإنشاء وتأثيث النزل لاستراحة المسافرين , والمضايف لاستقبال الغرباء .
وتجاوز الوقف تحقيق مختلف الضروريات والحاجبات الإنسانية , ليصل إلى " التحسينيات " الكماليات التي تجمل الحياة وتزينها , مثلالأوقاف التي خصص ريعها لإنشاء نوافير المياة في الأماكن العامة , وغرس الأشجار والأزهار , والعناية بالآثار والفنون الجميلة , وأمتد نفعها ليشمل إطعام الطيور والكلاب وبعض الحيوانات , ليقدم صورة مشرقة تعبر عن حس مرهف لمشاعر أسلافنا , الذين فهموا الإسلام فهماً صحيحاً , فقدموه للعالم عملياً في أزهى صورة .
دور الوقف في تحقيق التنمية الاقتصادية
الوقف عملية تجمع بين الادخار والاستثمار معاً , فهي اقتطاع أموال عن الاستهلاك الآني وتحويلها إلى الاستثمار في أصول رأسمالية إنتاجية في المجتمع , الهدف منها إنتاج المنافع والخيرات والإيرادات التي تستهلك في المستقبل , سواء أكان هذا الاستهلاك بصورة جماعية كمنافع مبنى المسجد والمدرسة والمستشفى , أم بصورة فردية نحو ما يوزع على الفقراء والمساكين أو على الذرية .
فإنشاء وقف هو أشبه ما يكون بإنشاء مؤسسة اقتصادية ذات وجود دائم , فالوقف عملية استثمار للمستقبل , وهو بناء للثروة الإنتاجية من أجل الأجيال القادمة , وللوقف دور حيوي وهام في تحقيق التنمية الاقتصادية وذلك عن طريق :
1- تمويل التنمية : يقوم الوقف بدور مؤثر في تمويل التنمية بالإسهام في محاربة الاكتناز , الذي هو تخلف أحد عناصر الثروة والإنتاج عن المشاركة في النشاط الاقتصادي وبقائه في صورة عاطلة , ووجود الوقف كصدقة تطوعية بجانب الزكاة كصدقة إلزامية يسهم في تحرير رؤوس الأموال العينية والنقدية جبراً أو طوعاً من سيطرة حب أصحابها الفطري لها , ويجعلهم يدفعون بها للمشاركة في تنمية المجتمع طلباً للبركة والنماء والثواب من الله في الآخرة .
2- تنمية القطاعات الاقتصادية : يضطلع الوقف بدور فعال في دعم مختلف القطاعات الزراعية , والصناعية , والتجارية , والخدمية , والدفع بها قدماً لتحقيق التنمية الشاملة .
•مجال القطاع الزراعي : بخاصة البلدان الزراعية يتم وقف الأطيان المزروعة لينفق عائدها في مختلف أوجه البر , مع رصد جزء من الغلة لتعمير الوقف والحفاظ عليه وإضافة مساحات جديدة إليه , وذلك من شأنه تنمية ذلك القطاع الحيوي الهام .
•مجال القطاع الصناعي : ساهم الوقف في تنمية الصناعات المختلفة , من خلال الأوقاف التي خصص ريعها للإنفاق على بعض الصناعات الأساسية , بتوفير ماتحتاج إليه من خامات وتدريب العمال على أنواع المهارات الفنية والحرف اليدوية .
•مجال القطاع التجاري : اهتم الوقف بتوفير الأسواق الداخلية والخارجية لكونها المكان المناسب لتصريف المنتجات والتعرف على حاجات المشترين وإمكانات المنتجين , فأقام الدكاكين للتجار من كل صنف , وأقام أحواض المياة المخصصة لدوابهم التي ينقلون عليها بضائعهم , وأقام أسبلة المياة المخصصة للإنسان على الطرق التجارية كخدمة مجانية , فكان لذلك أثر كبير في رواج النشاط الصناعي على هذه الطرق .
•مجال قطاع الخدمات : نشأت العديد من الأوقاف التي كانت مهمتها إنشاء البنية الأساسية , من طرق , وقناطر , وجسور , وخانات لإيواء المسافرين من فقرائهم أو تجارهم في حلهم وترحالهم بين منطقة وأخرى من العالم الإسلامي .
3- من خلال آثار الوقف التوزيعية :
دور الوقف في العناية التنموية لا يتوقف عند الآثار التمويلية والاقتصادية فحسب , وإنما تمتد لتحقق آثاراً توزيعية عميقة في المجتمع , حيث يوفر حد الكفاية لأكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع بما يحقق درجة أعلى من التكافل الاجتماعي , فيحمي النفوس من الانحراف ويحمي من الاضطرابات وهما أهم عنصران لإعاقة التقدم الاقتصادي والإنماء .
دور الوقف في تراكم التنمية
نظراً لأن الوقف ثروة استثمارية إنتاجية على سبيل التأبيد , يمنع بيعه واستهلاك قيمته , ويمنع تعطيله عن الاستغلال , ويحرم الانتقاص منه والتعدي عليه , ويجب المحافظة عليه بصيانته والإضافة إليه من موارده , من هذا المنطلق فالوقف ليس مجرد استثمار من أجل الأجيال القادمة , وإنما هو استثمار تراكمي يتزايد يوماً بعد يوم بإضافة أوقاف جديدة إلى ما هو قائم دون أن ينتقص من الأوقاف القديمة شئ .
الحاجة إلى عودة الوقف
إن تطور الحياة العصرية وكثرة متطلباتها , وتجدد مشاكلها وتنوعها , يلقي بعبئ ثقيل على الحكومات والسلطات الرسمية , هذا العبئ لا يمكن الحكومات من القيام بوظائفها التقليدية إلا بالكاد وفي ضوء الإمكانات المتاحة , فتوفر الحاجات الأكثر إلحاحاً , بينما يكاد ينعدم تحقيق المقاصد الشرعية والغايات الإسلامية , سواء أكان ذلك عن سوء تخطيط , أو سوء نية , فيفقد المجتمع هويته وثقافته وأخلاقه , وأهم ما يفتقد تراحم أفراد الجيل الواحد , وتواصل الأجيال فيما بينها , فيركز أبناء كل جيل على تحقيق مصالحهم ورغباتهم الآنية في صورة استخدام مفرط وإهدار للموارد , دون الاهتمام بأبناء جيلهم المعاصر أو بالأجيال القادمة .
خطوات عودة الوقف
إن الإيمان بضرورة عودة الوقف يتطلب عدة خطوات على النحو التالي :
•استرداد الأوقاف المغصوبة : إن أول خطوة يجب اتخاذها هي وقف الاعتداء على الأوقاف , باسترداد الأوقاف المستولى عليها سواء أكان ذلك من الدولة أو من الأفراد , وإدارتها بعيداً عن سيطرة الإدارة الحكومية , ووفقاً لشروط الواقفين المعتبرة شرعاً .
•تصحيح التجاوزات : وهي تجاوزات من الواقفين والمستفيدين والنظار والحكومات , والتي نتج عنها تشويه صورته والانحراف به عن أهدافه , وذلك بالعودة إلى الأسس الصحيحة التي وضعها نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار للوقف , لنعيده إلى سابق عصره المزدهر بعيداً عن انحرافات التطبيق التي ألصقت بالوقف ما ليس منه .
•مراجعة واقع الأوقاف : لضمان عودة الوقف إلى سابق مكانته , يجب مراجعة واقع الأوقاف على ما استقر من أحكام الوقف , ودراسة المجالات التي على الوقف خدمتها في عصرنا الحديث , لأن هناك هوة شاسعة بين انحصارها حالياً في المجالات الدينية , وبين ما كانت عليه من اتساع المجالات المختلفة بقدر اتساع حاجات الناس والمجتمع .
•تنشيط استثمار أموال الوقف : نظراً لأن أكثر أموال الأوقاف في صورة عقارات غير قابلة للتحويل إلى نقد خلال فترة قصيرة وبتكلفة معقولة , تنعدم القدرة على مزاولة استثمارها وتنميتها , لذا فإن المهمة الأساسية التي تفرض نفسها في مجال عودة الأوقاف إلى أداء دورها المتميز في المجتمع , هي تمويل الأوقاف لترميم وإصلاح وصيانة العقارات الموقوفة , لجعلها في صورة قابلة للاستخدام والانتفاع منها .
عند ذلك يكون على إدارات الأوقاف حسن استثمارتلك العقارات , وفق أفضل أساليب الاستثمار المعاصرة , التي تقع في دائرة الحلال للحصول على أفضل العوائد منها .
•النشاط العلمي والعملي لعودة الوقف : ويكون الجانب العلمي بعقد الندوات لتدارس شئون الأوقاف وما يعترضها من مشاكل تنفيذية وإدارية ومالية , وتبادل المعلومات وتقديم الأبحاث ونشرها بما يحقق تنمية الوعي بأهمية الوقف .
أما من الناحية العملية فيجب ترجمة الأبحاث العلمية إلى قوانين لتنظيم الأوقاف الجديدة من الناحية المالية والإدارية , مع الاهتمام بتطوير وتنمية الأوقاف الموجودة .
هذا العرض المبسط يوضح أن الأعمال التي شملها الوقف بخدماته تعجز المؤسسات الاجتماعية الحديثة أن تغطيها , بل يمكن القول أن مجالات عمل الوقف لا تستطيع الدول رغم ضخامة إمكانياتها , أن توفر التمويل اللازم للقيام بها . ويبين أيضاً الحاجة الملحة لعودة الوقفليضطلع بدوره الاجتماعي والاقتصادي , ليحقق المصالح الخاصة والعامة في المجتمع .