كأني أرى علامات التعجب ترتسم على وجوه القراء الأعزاء , وفي مقدمتهم اللغويين المهتمين بتنقية اللغة العربية من الكلمات الدخيلة عليها , يليهم العاملين والمتعاملين في البورصة لعلمهم أن البورصة ككيان ونظام عمل هي نتاج النموذج الرأسمالي الغربي , وأحسب أن أكثر القراء تعجباً ودهشة الكتاب والعلماء الاقتصاديين الذين يكتبون لقرائهم ويدرسون لطلابهم لسنوات طويلة أن البورصة كلمة غربية أصلها التاريخي يرجع إلى اجماع المؤرخين على أن كلمة البورصة اشتـقـت مـن اسمVan Der Bourse وحددوا المكان الذي اشتقت فيه بمدينة بروج Brugeالبلجيكية . واختلفوا في طبيعة الشيء الذي يمثله الاسم فقال أحدهم أنه اسم أحد أعيانهم ، وقال آخر أنه اسم فندق لعائلة يعمل أفرادها في الوساطة بين التجار الذين ينزلون بالفندق ، وقيل أنه اسم لأحد الصيارفة الذي نقش على واجهة منزله ثلاثة أكياس من النقود ليشير إلى حرفته ، وقول أخير يذهب إلى أن الاسم لتاجر غني كان التجار يجتمعون في قصره لتداول الأعمال التجارية .
وقد شغل هذا الاختلاف ( د . سمير عبد الحميد رضوان ) فاجتهد في البحث والتمحيص وراسل السفير البلجيكي في مصر ليقف على الحقيقة الغائبة وانتهى إلى القول : " تشير الوثائق التي وافاني بها سعادة السفير البلجيكي في مصر بأنه في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي بدأت بيوت التجارة والصرافة الإيطالية في الهجرة إلى بلاد الفلندر الشهيرة ببلاد الفلمنك ، وما إن وطد الإيطاليون أقدامهم في هذه البلاد حتى شرعوا في إقامة مستعمراتهم في واحدة من أشهر الـمـدن والـمـراكـز الـتـجـارية الـعـالـمية في ذلك الحيـن وهي مدينة بروجBruge البلجيكية ، واتخذت القنصليات الإيطالية الثلاث لكل من جنوة والبندقية وفلورنسا مقراً دائماً لكل منها في قلب حي الأعمال في هذه المدينة ، وكان لتجمع هذه القنصليات في مكان واحد أن أصبح هذا المكان مرغوباً من جانب الإيطاليين وصار مهبط التجار ورجال الأعمال . ولما كان من الثابت تاريخياً أن المقر الدائم لقنصلية البندقية كان في سابق عهده فندقاً مملوكاً لعائلة ( فان دير بيرس ) البلجيكية والتي اشتهر عن أفرادها من الأجداد إلى الأحفاد اشتغالهم بأعمال الوساطة والسمسرة لنزلاء الفنادق الوافدين على المدينة Broker - innkeapers وذلك طيلة القرن الرابع عشر والنصف الأول من القرن الخامس عشر ، فلم يكن مستغرباً أن يتسمى الميدان – الذي تحيطه القنصليات الثلاث وصار ملتقى التجار الذين يتعاملون في مختلف أنواع السلع وتجمع رجال الأعمال – باسم هذه العائلة ، نقصد عائلة فان دير بيرس . وقد دعت هذه الظروف إلى إطلاق لفظ البورصة فيما بعد على ذلك المكان المتسع الذي كانت تحيطه الأروقة وتتوسطه الأعمدة في مدينة انترب Antwerb الفلندرية المعروفة بانفرس . حيث أقيمت هذه البورصة على أنقاض بورصة بروج التي احتفظت لنفسها بمركز الصدارة في المال والتجارة خلال الفترة من سنة 1300م إلى1450 م ، وقد دشنت أنفرس بورصتها التجارية سنة 1485 م بعد أن أزاحت بروج من طريقها وقامت بتوسيعها سنة 1530 م فاستوعبت التجار من كل صوب وحدب " .
طبقاً لرأي هؤلاء المؤرخين وهذا التحقيق تكون كلمة البورصة كلمة غربية مشتقة من اسم فندق مملوك لعائلة ( فان دير بيرس ) البلجيكية ، والتي اشتهر عن أفرادها من الأجداد إلى الأحفاد اشتغالهم بأعمال الوساطة والسمسرة طيلة القرن الرابع عشر والنصف الأول من القرن الخامس عشر , وهذا هو الشائع والمستقر في الأذهان لدى الجميع على حد علمي حتى تاريخ كتابة هذه السطور .
معنى كلمة البورصة
ما أريد توضيحه الآن هو أن ما شاع واستقر في الأذهان على أنه حقيقة ثابته وموثقة مفادها أن البورصة كلمة غربية غير صحيح , حيث أن البورصة كلمة عربية أصيلة ويظهر ذلك جلياً من نتيجة البحث في بعض المعاجم كما يلي :
لسان العرب
البُرصة : فتق في الغيم يرى منه أديم السماء ، ابن شميل : البرصة البلوقة وجمعها براص وهي أمكنة من الرمل بيض ولا تنبت شيئاً ويقال : هي منازل الجن .
المعجم الوسيط
البُرصة : فتق في الغيم يرى منه أديم السماء ، وبقعة في الرمل لا تنبت شيئاً . ( وفي علم الاقتصاد السياسي ) : المصفق ، وهي سوق يعقد فيها صفقات القطن والأوراق المالية .
المعجم الوجيز
البورصة : في علم الاقتصاد السياسي ، سوق يعقد فيها صفقات القطن والأوراق المالية .
في ضوء ما أسفر عنه البحث في المعاجم نجد أن هناك معنيين لا ثالث لهما لكلمة بورصة أحدهما حديث ويتفق مع كون البورصة سوق يعقد فيها صفقات القطن والأوراق المالية ، وأعتقد أن هذه المعاجم استندت إلى الأصل التاريخي لكلمة البورصة من وجهة النظر الغربية .
معنى آخر قديم يصف البورصة ( البُرصة ) بأنها فتق في الغيم يرى منه وجه السماء الصافي وبالتالي فهي لا تمطر لعدم تلبد الغيم ، وأرض لا تنبت شيئاً ، وأنها منازل الجان كما جاء في معجم لسان العرب والذي يرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر الميلادي ، حيث أن مؤلفه بن منظور ولد سنة 630 هـ / 1232 م وتوفي سنة 711 هـ / 1311 م .
يفهم من ذلك أن تاريخ كلمة بورصة سابق للقرن الثاني عشر الميلادي لأن ما لدنيا هو تاريخ تدوينها في معجم لسان العرب ، وهذا يعني أن الأصل العربي لكلمة البورصة سابق على الأصل التاريخي لها من وجهة النظر الغربية بعدة قرون من الزمان وذلك بالمقارنة مع وثائق السفير البلجيكي ، في القاهرة التي تفيد أن عائلة Van Der Beurse البلجيكية عملت بالوساطة والسمسرة طيلة القرن الرابع عشر والنصف الأول من القرن الخامس عشر .
-الأمر المهم في هذا المقام أن ماتم التوصل إليه من أن البورصة كلمة عربية أصيلة يمثل بفضل من الله إضافة جديدة غير مسبوقة في أي مرجع اقتصادي موجود عن البورصة .
-رغم ثبوت أن البورصة كلمة عربية يزيل التعجب من عنوان المقال ومن نفوس القراء لكن المفارقة أن المعاني المتضمنة في الأصل العربي لكلمة البورصة تفتح باب التعجب والغرابة على مصراعيه لتعلقها بمفهوم الاستثمار في البورصة حسب التوضيح التالي :
1- تبين من دون شك أن البورصة كلمة عربية تعني سماء لا تمطر وأرض لا تنبت وهو ما يعتبر كارثة اقتصادية لعدم وجود نماء نتيجة انعدام الماء والزرع . يتوافق هذا المعنى مع ماذكره الاقتصادي الكندي William White في ورقة عمل أعدها لصالح بنك التسويات الدولية BIS قال فيها " لقد أفضت هذه الأزمات المالية وبشكل متزايد إلى اضطرابات اقتصادية حادة ، وارتفاع في معدلات البطالة ، حتى أنها في كثير من الأحيان قد تسبب في عودة الفقر إلى الكثير من الأسواق الناشئة " . فمن بين 282 شركة مسجلة في بورصة جاكرتا ، على سبيل المثال ، والتي كانت تتمتع بالحيوية والملاءة المالية ، لم يبق سوى 22 شركة على ذلك الحال بعد انهيار السوق الإندونيسية ، كل تلك المصائب تسبب بها المضاربون " المقصود بالمضاربون المغامرون والمقامرون وليس المفهوم الشرعي للمضاربة " الذين يعملون بنظام التحكم عن بعد , لقد جُرد مالكو 260 شركة من حقهم في ثرواتهم وأصبح قرابة 50 مليون أندونيسي آخر يعيشون تحت خط الفقر .
هذا يعني أنها كارثة دمرت المجتمع اقتصادياً ومالياً ونفسياً ولم تترك لأفراده إلا الحسرة والندامة { يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } البقرة 276 ، والربا ظاهر في المعاملات الآجلة بالبورصة التي يقترض فيها المتعاملون بفائدة ليزيدوا من مكاسبهم فتكون النتيجة زوال ثرواتهم لمخالفتهم لأمرالله . والمحق الذي يعني الزوال بعد الوجود كعقوبة للربا يتساوى مع عدم الوجود من الأصل كنتيجة لكون السماء لا تمطر والأرض لا تنبت . ويؤكد ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنين" السنين : الجدب - القحط , فعقوبة الربا في هذا الحديث الشريف هي عدم خصوبة الأرض و احتباس المطر , وهو مطابق تماماً لمعنى البورصة في المعاجم القديمة .
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو هل تداول الأسهم بين المتعاملين في البورصة " السوق الثانوية " بشتى صوره ومهما بلغ حجمه وحقق منه بعض المتعاملين مكاسب من تغير الأسعار اللحظي صعوداً وهبوطاً على حساب خسارة البعض الآخر وبنفس المقدار دون تحقيق أي قيمة مضافة إلى الاقتصاد القومي , ودون وصول تلك الأموال للشركات المصدرة لهذه الأسهم لتساعدها في تطوير الآداء أو زيادة الانتاج أو تحسين ظروف العاملين بها يعتبر استثمار ؟ .
2- وصف البورصة بأنها منازل الجان مرتبط بالحركات السريعة والعصبية للسماسرة لتبليغ أوامر العملاء ، وله علاقة كذلك بالتصرفات اللا شعورية التي تصدر عن المتعاملين من صياح وانفعالات نتيجة الخسائر المؤلمة التي تسببها البورصة وتكون كحركات من أصابه مس من الجان { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } البقرة 275 .
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الموضع هو هل بيع الأسهم المقترضة من السمسار مع احتفاظ السمسار بحصيلة بيع الأسهم كرهن يستخدمه في تحقيق فائدة لنفسه وهو ما يطلق عليه " البيع على المكشوف " , أو اقتراض أموال من السمساربفائدة محددة لشراء المزيد من الأسهم وهو ما يسمى " الشراء بالهامش " , وكذلك جميع البيوع الأخرى الآجلة في البورصة والتي تعرف " بالمستقبليات " , والعمليات الوهمية التي يعبر عنها " بالمشتقات المالية " التي كانت وراء الكوارث المالية التي تدمر العالم اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً فهل من الممكن اعتبار هذه المعاملات استثمار ؟ .
الاجابة عن السؤالين السابقين لا تحتاج إلى مجهود فيكفي الاستشهاد ببعض وليس كل أقوال الاقتصاديين الغربيين الذين بينوا حقيقة هذا النوع من المعاملات التي يحلو للبعض منا تسميتها بالاستثمار وفي هذا خداع للناس وأكل أموالهم بالباطل , ومن هؤلاء الاقتصاديين :
•دافيد كورتين صاحب كتاب العولمة والمجتمع المدني الذي يقول إن أكثر من تريليون دولار تتداولها الأيدي إلتماساً لعوائد مالية قصيرة الأجل لا علاقة لها بالإنتاج أو التجارة في أي سلع أو خدمات فعلية ، ويضيف أصبح النظام المالي العالمي نادياً عملاقاً للقمار تعتمد الفوائد فيه على استخلاص الثروة من بين أيدي الآخرين .
•أما بيتر داركر فيقول أن المنتجات التي ظهرت خلال الثلاثين عاماً الماضية كانت في الغالب مشتقات مالية زعموا أنها علمية لكنها في حقيقة الأمر لم تكن أكثر علمية من أدوات القمار في " لاس فيجاس " أو " مونت كارلو " .
•وأختم بجورج سورس الملياردير اليهودي المعروف الذي أعلن في لجنة البنوك الأمريكية عام 1994 أن بعض أدوات المشتقات المالية تم تصميمها خصيصًا لتمكين المؤسسات الاستثمارية من المقامرة , ومن المعلوم دوره الفاعل في أزمة النمور الآسيوية وانهيار أسواقها المالية عام 1997 .
السؤال الأخير الذي مازال يحيرني بعد كل ماتقدم هو هل تطابق وصف كلمة البورصة عربياً مع واقع ماتحدثه تعاملات البورصة القائمة غربياً يعتبر من قبيل المصادفة المحضة ؟!
في تصوري أن الاجابة عن هذا السؤال مرتبطة بأمرين أولهما : رحلتي الشتاء والصيف { لإِيلافِ قُرَيْش إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ } قريش 2,1 , ذلك لأنه من المعلوم أن العرب قبل الإسلام كان لديهم رحلتين للتجارة إحداهما إلى اليمن شتاءً والأخرى إلى الشام صيفاً , وأن الشام كانت خاضعة للروم ووجود تعاملات بين تجار قريش وتجار الشام يؤدي بالضرورة لتبادل مسميات وصيغ لمعاملات مالية من طرف إلى الطرف الآخر , ومن ضمن ما يعنيه هذا أن البورصة بتعاملاتها ربما كانت معلومة لدى العرب قبل الإسلام , وخاصة أن التعاملات بالربا كانت هي السائدة في مجتمعهم وتصب في مصلحة عدد قليل من المرابين على حساب عدد كبير من المقترضين بصرف النظر عن سبب القرض , وعندما جاء الإسلام أحل البيع وحرم الربا وأوجد عقود شرعية كالمشاركة والمضاربة والسلم والمزارعة والمساقاة ...... وغيرها كبدائل للمعاملات المالية المنهي عنها , وبالتالي لم يعد هناك حاجة للبورصة ، ثم مع مرور الزمن وابتعاد المسلمين عن المنهج الصحيح للمعاملات المالية عادت إليهم البورصة من الغرب في شكل صور جديدة من المعاملات .
ثانيهما : إجلاء اليهود من المدينة نتيجة المؤامرات و الدسائس التي كانوا يحدثونها في المجتمع , و برحيلهم تفرقوا في البلاد و مارسوا معاملات البورصة باعتبارهم أساطين المال و أباطرة الربا فانتشرت كلمة البورصة في البلاد التي رحلوا إليها.
هذا هو التصور الذي لدي وأعتقد أن تأكيده يحتاج إلي مزيد بحث في كتب قدامى المؤرخين .
عبد الفتاح محمد صلاح
مشرف موقع الاقتصاد العادل