أجمع كبار علماء خمسة وثلاثين دولة إسلامية من الفقهاء والاقتصاديين المشتركين في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة عام 1965م على أن: " الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي، لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة بتحريم النوعين، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام، وأن الحسابات ذات الأجل، وفتح الإعتمادات بفائدة، وسائر أنواع الإقراض بفائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة "، والفتوى جماعية وكانت بالإجماع.

وبعد عقدين من الزمان لم يبعد قرار المجمع الفقهي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في مؤتمره الثاني بجدة عام 1985م عما أصدره مجمع البحوث الإسلامية، فقد قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي أن: " كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله.. وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً ".

وفي نفس العام اجتمع مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وكان قراره أنه: " يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله عنه من التعامل بالربا أخذاً أو عطاءً.. والمعاونة عليه بأي صورة من الصور حتى لا يحل بهم عذاب الله ولا يأذنوا بحرب من الله ورسوله ".

فتحريم الربا مسألة لم يقع فيها خلاف لا في القديم ولا في الحديث، وقرارات المجامع الفقهية أكدت على أن فوائد البنوك هي الربا المحرم، فما هي مبررات بعض الفقهاء وعلماء الاقتصاد لمخالفة إجماع علماء المسلمين، وإجازة الفوائد التي تحصل عليها البنوك من القروض التي تقدمها للعملاء، وتحليل العائدات التي يحصل عليها أصحاب الودائع والسندات من البنوك؟.

• مبررات من أجازوا فوائد البنوك والعائد على الودائع والسندات

الفقهاء والاقتصاديين الذين أجازوا فوائد البنوك والعائد على الودائع والسندات، استندوا على كل أو بعض أو واحد من المبررات التالية:

1- البنك يتلقى الأموال من المودعين بصفته وكيل استثمار.

2- القروض الانتاجية ليس فيها ربا.

3- الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة وحدها.

4- حيازة السندات هو نوع من أنواع المضاربة الشرعية.

5- مبدأ الضرورة يبيح الاستثمار في السندات.

6- إباحة التعامل بالسندات للحاجة والمصلحة.

لقد أحدثت الحملة الإعلامية التي قامت بها البنوك للترويج لهذه المبررات حالة من اللبس والتشويش في نفوس عدد غير قليل من المسلمين، وأصبحت مسألة فوائد البنوك التي حسمت حرمتها منذ عدة عقود حديث الناس وشغلهم الشاغل، وهو ما دفع بعض العلماء والاقتصاديين للتصدي لهذه المبررات بالمناقشة والرد.

وحتى يعود الانضباط مرة أخرى لمفهوم فوائد البنوك والعائد على الودائع والسندات لما استقر عليه إجماع علماء المسلمين، أقدم بشيء من الإيجاز بعض من هذه المناقشات والردود.

أولاً: قولهم أن البنك يتلقى الأموال من المودعين بصفته وكيل استثمار

هذا التصور خيالي لا وجود له إلا في عقول من قالوا به، ولا يجري عليه العمل في البنوك التجارية ولا في البنوك المتخصصة، لا في مصر ولا في الدول العربية، ولا في غيرها من دول العالم، وهو تصور يناقض ما اتفقت عليه القوانين المدنية والقوانين التجارية وقوانين عمل الجهاز المصرفي في العالم أجمع، وكذلك يناقض القواعد المحاسبية، والتكييف الشرعي لطبيعة عمل البنوك.

فالبنوك ليست وكيلا عن المودعين في استثمار أموالهم، ولا تربطها بهم عقد وكالة استثمارية، ذلك أن الذي ينظم علاقة البنك بمودعيه وفقاً للقوانين التي تعمل في ظلها هذه البنوك هو عقد وديعة النقود أو الوديعة الناقصة كما يسميها القانون، وحكم هذا العقد أنه ينقل ملكية الوديعة إلى البنك، ويخول للبنك استخدامها لحسابه وعلى مسئوليته، وتثبت هذه الوديعة ديناً في ذمته، ويلتزم برد بدلها عند الاقتضاء [1].

فقد نصت المادة 726من القانون المدني المصري الجديد على أنه: " إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذوناً في استعماله اعتبِر العقد قرضاً ". وهذا هو الحكم في بقية القوانين العربية، يراجع المادة 692 من القانون المدني السوري، والمادة 726 من القانون المدني الليبي، والمادة 971 من القانون المدني العراقي، والمادة 691 من قانون الموجبات والعقود اللبناني، والمادة 889 من القانون المدني الأردني.

كما تنص المادة 301 من قانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999م على أن: " وديعة النقود عقد يخول البنك ملكية النقود المودعة والتصرف فيها بما يتفق ونشاطه مع التزامه برد مثلها للمودع طبقاً لشروط العقد ". وعلى هذا النحو فالتكييف القانوني للودائع يتفق مع التكييف الشرعي لها، ويتفق مع ما قال به الاقتصاديين، ويتفق مع القواعد المحاسبية المطبقة في البنوك.

فالقرض في الشريعة: " هو تمليك للمال على أن يرد بدله " وهذا الذي يجري عليه عمل البنوك في هذه الودائع، فهو يخلطها بأمواله ويتصرف فيها تصرف الملاك ثم يرد بدلها عند الاقتضاء.
والاقتصاديون يعرفون البنك بأنه: المنشأة التي تتاجر بالديون، فهو يقترض بفائدة ويقرض بفائدة أكبر منها، والفرق بين الفائدتين يمثل دخل البنك [2].

ومن ناحية القواعد المحاسبية: إذا نظرنا إلى ميزانية أي بنك في العالم سنجد أن أرصدة المودعين تظهر فى جانب الالتزامات (الخصوم) باعتبارها من المديونيات (القروض) التى على البنك، ويظهر الائتمان الذي يمنحه البنك للعملاء من أفراد ورجال أعمال وشركات وغيرهم في جانب (الأصول بند المدينين) باعتبار الائتمان وفوائده (قروض) على العملاء، وهذا من واقع ميزانيات البنوك المنشورة في الجرائد ولا تخفى على أحد.

البنوك لا تملك استثمار الأموال بمقتضى القانون!

لو افترضنا أن العقد الذي ينظم علاقة المودعين بالبنك هو عقد وكالة في الاستثمار – وهو ما تبين أنه فرض يناقض أحكام القوانين وينافي الواقع – فإن البنوك التجارية والمتخصصة محظور عليها استثمار الودائع بنفسها مباشرةً بمعنى الاتجار فيها بالبيع والشراء، ويسمح لها فقط بإقراضها للغير بفائدة. وهذا ما نصت عليه المادة 39 من القانون المصري رقم 163 لسنة 1957 والقوانين المعدلة له من أنه: " يحظر على البنك التجاري أن يباشر العمليات الآتية:

أ- التعامل في المنقول أو العقار بالشراء أو البيع أو المقايضة فيما عدا: العقار المخصص لإدارة أعمال البنك أو للترفية عن موظفيه، وكذلك المنقول أو العقار الذي تئول ملكيته إلى البنك وفاء لدين له قبل الغير قبل أن يقوم البنك بتصفيته خلال سنة من تاريخ أيلولة الملكية بالنسبة للمنقول وحتى سنوات بالنسبة للعقار، ويجوز للبنك المركزي مد هذه المدة عند الاقتضاء.

ب- امتلاك أسهم الشركات المساهمة ويشترط: " ألا تجاوز القيمة الاسمية للأسهم التي يملكها البنك في الشركة مقدار رأسماله المصدر واحتياطياته " وهو ما يعني حظر المساس بالودائع.

والمادة 45 (مستبدلة بالقانون 97 لسنة 1996): " يحظر على البنوك العقارية والبنوك الصناعية وبنوك الاستثمار نفس الأعمال المحظورة على البنوك التجارية ".

ثانياً: قولهم أن القروض الإنتاجية ليس فيها ربا

يفرق أصحـاب هذا الرأي بين القروض الإنتاجية وهي تلك التي تنفـق إنفاقاً استثمارياً، وتنتج عائداً نقدياً، وبين القروض الاستهلاكية والتي تنفق إنفاقاً استهلاكياً لسد حاجات القطاع العائلي الأساسية من غذاء ومسكن وملبس ... إلخ ولا يتولد عنها عائد نقدي.

مناقشة مبررات هذا الرأي والرد عليها

ربا الجاهلية كما تثبته الوقائع التاريخية وحال العرب كان الجزء الأكبر منه في القروض التجارية الاستثمارية، ويدل على ذلك:

أ ـ روي أن سبب نزول قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ " [3] ، أن هذا السياق نزل في بني عمر بن عمير من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فكتب بها صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فعلمت بها ثقيف فقالوا: نتوب إلى الله، ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم [4] .

ووجه الدلالة هنا أنه لا يعقل أن يقترض بنو المغيرة – وهم أهل جاه ومكانة – لكي يقتاتوا، والأرجح أن اقتراضهم كان من أجل التجارة [5] .

ب ـ إن نصوص القرآن التي جاءت بتحريم الربا نصوص عامة لم تخصص قرضاً دون قرض، ولم يأت من الأدلة ما يخصصها، فهي تعم القروض التجارية والاستهلاكية.

جـ ـ القول بأن القروض الاستهلاكية وحدها هي محل الاستغلال دون القروض الإنتاجية أمر لا يسلم من تحكم في الرأي. فالاستغلال يشمل جميع التصرفات التي لا يتحقق فيها التوازن بين طرفي العقد، ودليل ذلك أن البنوك اليوم تربح أضعافاً مضاعفة ومع ذلك فإنها لا تمنح المقرض إلا النذر اليسير وهذا أكبر استغلال للمقرض [6] .

ثالثاً: قولهم أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة وحدها

يرى البعض أن الربا المحرم هو ما كان أضعافاً مضاعفة فقط لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [7] . حيث يثبت أصحاب هذا الرأي أن الربا المحرم مشروط ومقيد بالقيد المذكور أما قوله تعالى: " وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [8]" ، فهو من قبيل المطلق، الذي يجب أن يحمل على المقيد في الآية الأولى التي دلت بمنطوقها على النهي عن الربا الذي يكون أضعافاً مضاعفة، ودلت بمفهوم المخالفة على إباحة الربا إذا لم يكن كذلك [9] .

مناقشة مبررات هذا الرأي والرد عليها

يعرف الأصوليون الذين يأخذون بهذه الدلالة بأنها إثبات حكم المنطوق للمسكوت عنه إذا قيد الكلام بقيد يجعل الحكم مقصوراً على حال هذا القيد، فإن النص يدل بمنطوقه على الحكم المنصوص عليه، ويدل بمفهوم المخالفة على عكسه في غير موضع القيد [10] . وله شرطان:

أولهما: ألا يكون للقيد الذي قيد به الكلام فائدة أخرى ثابتة كالتنفير أو الترغيب أو الترهيب، ففي قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً [11]" قد قام الدليل على أن الوصف للتنفير لقوله تعالى: " وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ " [12] .

ثانيهما: ألا يقوم دليل خاص في المحل الذي يثبت فيه مفهوم المخالفة، ومن ذلك قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى[13] " والدليل الخاص قوله سبحانه وتعالى: " وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [14]" ، وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " النفس بالنفس ".

فإذا ما تتبعنا الوصف موضوع المناقشة نجد أن مفهوم المخالفة فقد الشرط الأول لعمله لأنه قصد به التنفير والترهيب لأن الله تعالى أتى بقوله أضعافاً مضاعفة توبيخاً لهم على ما كانوا يفعلون وإبراز لفعلهم السيء، وتشهيراً بهم، وقد جاء مثل هذا في قوله تعالى: " وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [15]" ، فليس الغرض أن يحرم عليهم إكراه الفتيات على البغاء في حالة إرادتهن التحصن وأنه يبيحه لهن إذا لم يردن، ولكنه يبشع بهم وبما يفعلون [16] .

كذلك فقد مفهوم المخالفة الشرط الثاني للعمل به لقيام الدليل الخاص في المحل الذي يثبت فيه مفهوم المخالفة وذلك في قوله تعالى: " وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ " [17] .

هذا بالإضافة إلى أن القول بأن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة وحدها مخالف للعقل والمنطق والفهم الصحيح، لأنه من المعلوم أن أول الضعف اثنين فتكون الأضعاف أربعة والمضاعفة ستة أو ثمانية، فهل يعقل أن يكون المقصود من النص القرآني أن 600% أو 800% هو الربا المحرم فقط وما دون ذلك مباح؟! أعتقد أنه لايوجد من يقبل القول بذلك.

رابعاً: قولهم أن حيازة السندات نوع من أنواع المضاربة

يرى بعض الفقهاء أن العلاقة بين مصدر السند وحائزه ليست علاقة مقرض بمقترض، وأن العقد الذي بينهما ليس عقد قرض، إنما هو عقد مضاربة يكون فيه مُصدر السند عاملاً وحائزه رب المال.

مناقشة مبررات هذا الرأي والرد عليها

إن تصوير التعامل بالسندات ذات الفائدة على أساس أنه مضاربة، مجرد تغطية لفـظية لا يمكـن أن تخفي طبيعة السنـدات بوصفهـا قرضاً مهما اتخذ لها مـن مسميات [18] . وهناك فرق كبير بين السندات والمضاربة باعتبار حقيقة كل منهما:

فالمضاربة الشرعية: هي دفع مال لآخر ليتجر به على أن يكون الربح مشاعاً على ما شرط، والخسارة على صاحب المال وحده.

أما السندات: فهي عبارة عن صك مديونية يثبت لحامله حق اقتضاء ما قدمه من أموال على سبيل القرض، كما يثبت حقه في الحصول على الفوائد التي تترتب على هذه المديونية في المواعيد المحددة في الصك [19] .

خامساً: قولهم إباحة السندات على مبدأ الضرورة

يرى البعض أن البنوك والأسواق المالية وشركات التأمين هي محور النشاط الاقتصادي في عالم اليوم، كما أن المعاملات التجارية والاستثمارية لابد لها أن تمر بصورة أو بأخرى عبر هذه المؤسسات التي تشكل الفائدة عصب نشاطها، وتلعب كذلك نفس الدور بالنسبة للأنشطة الحكومية، ويرون كذلك أن التعامل مع مؤسسات التمويل الدولية يفرض علينا التعامل معها بشروطها ولوائحها.

مناقشة مبررات هذا الرأي والرد عليها

معلوم أن الضرورات التي تبيح المحظورات هي الضرورات الخمس: الدين والعقل والنفس والنسل والمال، وهي المعتبرة في دفع المضطر لإتيان المحرم لكي يدرأ عن نفسه أو ماله أو عرضه هلاكاً محققاً، وإباحة المضطر تخصه وحده ولا تتعداه إلى غيره [20] . وهناك شروط يجب توافرها لتتحقق الضرورة التي تبيح فعل المحظور:

ـ لقد أجمع الفقهاء على أن الضرورة المبيحة لتناول المحرم هي تلك التي يخاف فيها الفرد على نفسه الهلاك إن لم يتناول المحرم علماً أو ظناً أو خوف الموت [21] .

ـ يقـرر الفقهـاء أن الضرورة تقدر بقدرها ولا يتوسع فيهـا، ولـذلك يقـولـون: " ويباح للمضطر أكل ما يسد الرمق ويحرم ما زاد على الشبع، ولا يجوز له استصحابها وبيعها لأنه توسع فيما لم يبح إلا لضرورة " [22] .

ـ من ضوابط الضرورة أن لا يكون هناك بدائل من المباحات لتحقيق الغرض، كما أن الضرورة تكون في أفعال الآحاد وإن جازت لمضطر بعينه فإنها خاصة به ولا تنسحب على غيره، والضرورة في كل الأحوال وضع طارئ، ولا يمكن أن تكون أصلاً تقنن لها التشريعات [23] .

سادساً: قولهم إباحة التعامل بالسندات للحاجة والمصلحة

ذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول بأن الربا الذي ورد ذكره في القرآن مجمل لأن النص قد حرم الربا، وكلمة الربا وهي مطلق الزيادة ليست مراده إذ ليست كل زيادة محرمة، والسنة هي المفسرة والموضحة لما أجمله القرآن. ولذلك يجب البحث في السنة الشريفة لتوضيح ما أجمله النص، ومن أكثر الأحاديث وضوحاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق، إلا وزناً بوزن، مثلاً بمثل، سواءً بسواء " [24] ، وهذا خاص بالبيوع الربوية فانحصر التحريم فيها، أمـا القـروض الربويـة فهي تقـاس عليها وليـست أصلاً في التحـريم [25] .

مناقشة مبررات هذا الرأي والرد عليها

قام هذا الرأي على أساس التفرقة بين البيع الربوي والقرض الربوي، وأن القرض الربوي ليس أصيلاً في التحريم ومن ثم تزول الحرمة عند الحاجة، ولكن هذه التفرقة ليس لها أساس من الصحة ، فالقرض الربوي محرم بنصوص ثابتة مقطوع بها من الكتاب والسنة [26] . والحاجة أقل مرتبة من الضرورة [27] ، ولا يتوقف عليها هلاك نفس ولا إهدار عرض، وبالتالي ينطبق عليها ما تم ذكره بالنسبة لإباحة السندات عل مبدأ الضرورة، كما أن المصلحة التي تعارض النص هي مصلحة ملغاة لا يلتفت إليها.

بعد ما تقدم من مناقشات يتأكد أن فوائد البنوك على كل أنواع القروض، والعائد على الودائع والسندات مهما اختلفت مسمياتها كلها ربا محرم، ويجب على كل مسلم عدم الأخذ بالآراء الشاذة التي تخالف ما انعقد عليه إجماع علماء المسلمين، وأن يبرأ لدينه ويحفظ نفسه ويجنبها أن تكون عرضة للحرب من الله ورسوله.





المراجع
  1. فتوى مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا: http://www.onislam.net/arabic/ask-the-scholar/8281/8267/52566.html
  2. د. على أحمد السالوس: حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي والمجامع الثلاثة، مكتبة دار القرآن، مصر.
  3. سورة البقرة: الآية 278.
  4. محمد علي الصابوني: مختصر تفسير ابن كثير، دار القرآن الكريم، بيروت، ط 7، 1981، ج 1 ص 249.
  5. د. أحمد محيي الدين أحمد: أسواق الأوراق المالية وآثارها الإنمائية في الاقتصاد الإسلامي، سلسلة صالح كامل للرسائل الجامعية في الاقتصاد الإسلامي، جدة، ط 1، 1995، ص 214.
  6. د. عطية فياض: سوق الأوراق المالية في ميزان الفقه الإسلامي، دار النشر للجامعات، القاهرة، ط1، 1998، ص 223.
  7. سورة آل عمران: الآية 130.
  8. سورة البقرة: الآية 275.
  9. د. عطية فياض: مرجع سابق، ص 226.
  10. محمد أبو زهرة: أصول الفقه، دار الفكر العربي، القاهرة، 1958، ص 148.
  11. سورة آل عمران: الآية 130.
  12. سورة البقرة: الآية 279.
  13. سورة البقرة: الآية 178.
  14. سورة المائدة: الآية 45.
  15. سورة النور: الآية 33.
  16. د. أحمد محيي الدين أحمد: مرجع سابق، ص 219.
  17. سورة البقرة: الآية 275ـ 279.
  18. د. أحمد محيي الدين أحمد: مرجع سابق، ص 224.
  19. د. أحمد بن محمد الخليل: الأسهم والسندات وأحكامها في الفقه الإسلامي، دار بن الجوزي، السعودية، 1426 هـ ، ص 298، 299.
  20. محمد أبو زهرة: مرجع سابق، ص 366، 367.
  21. ابن قدامة: المغني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1981، ص 595.
  22. المرجع السابق مباشرة، 592ـ 597.
  23. د. عطية فياض: مرجع سابق، ص 220.
  24. صحيح مسلم: دار التقوى، القاهرة، 2004، ج 11 ص 1950، كتاب المساقاة، باب الربا، حديث رقم 1584.
  25. د. أحمد محيي الدين أحمد: مرجع سابق، ص 234.
  26. د. عطية فياض: مرجع سابق، ص 231.
  27. د. نعمت عبد اللطيف مشهور: أساسيات الاقتصاد الإسلامي، جامعة الأزهر، القاهرة، ط 3، 2002، ص 56، 94.
Created By M2000 Studio

Valid XHTML 1.0 Transitional