في الآونة الأخيرة هناك جدل كبير في مصر حول مقدار الحد الأدنى للأجور وتقنين الحد الأقصى لها , وخاصة بعد الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري في 30 مارس 2011 والذى قضى بوقف تنفيذ القرار السلبي بالامتناع عن وضع حد أدنى للأجور في مصر .
المذاهب الاقتصادية ونظرية الحد الأدنى للأجور
الاعتقاد السائد لدى معظم الاقتصاديين أن نظريات الحد الأدنى للأجور إما أن تكون ليبرالية أو ماركسية , وتنطلق النظريات الليبرالية فيالأجور من مبدأ الحرية الاقتصادية القائم على أساس أن آلية السوق هي المنظم الوحيد للأسعار والمحدد للنشاط الاقتصادي , وتتعامل مع الأجر على أنه ثمن لكمية من العمل في صورة عدد من ساعات العمل اليومية التي يبيعها العامل لصاحب العمل مقابل أجر نقدي يتفق عليه فردياً أو جماعياً مع صاحب العمل بحرية تامة أو بتدخل ورعاية من الحكومة أو المنظمات العمالية .
ويرى أنصار هذه النظرية أن حركة العرض والطلب في سوق العمل قادرة على المحافظة لمدة طويلة على مستوى الأجور عند الحد الأدنى لمستوى المعيشة اللازم للمحافظة على حياة العامل فحسب , ويعتبر الاقتصادي الإنجليزي " دافيد ريكاردو " أول من نادى بذلك , وجسد فكرته من خلال " قانون الأجر الحديدي " الذي أكد من خلاله أنه لا جدوى من كل المحاولات لتحسين أجر العمال وأنه من الضروري أن يبقى الأجر قريباً من " حد الكفاف " .
بعد ذلك ظهرت نظرية إنتاجية العمل أي أن الأجر يتحدد بمقدار الإسهام في تكوين الإنتاج , ثم النظرية الاجتماعبة للأجور والتي تعتبر الأجور أداة من أدوات توزيع الدخل القومي بين الطبقات الاجتماعية وفقاً لوزن الطبقة داخل المجتمع , وصولاً إلى نظرية الأجور المنظمة التي تتفق في جوهرها مع النظرية الاجتماعية للأجور وتختلف معها في أنها تعتمد على قدرة التنظيم النقابي على ممارسة الضغط على أصحاب الأعمال أو الحكومات .
وتنطلق النظرية الماركسية في الأجور من فكرة " القيمة الزائدة " التي تفصل بين العمل الضروري : وهو الوقت الذي يقضيه العامل في العمل كي ينتج قدراً معيناً من الإنتاج يكون العائد المتحقق منه يكفي لتوفير المواد الضرورية اللازمة لمعيشة العامل وأفراد أسرته أي لتجديد قوة عمله دون فائدة تعود على صاحب العمل أو مالك وسائل الإنتاج .
والعمل الزائد : وهو الوقت الذي يقضيه العامل في العمل زيادة على وقت العمل الضروري وفيه ينتج القيمة الزائدة أو فضل القيمة التي تعود على صاحب العمل أو مالك وسائل الإنتاج .
قرارات تطبيق الحد الأدنى للأجور في مصر
أكد الدكتور/ عبدالفتاح الجبالي مستشار وزير المالية المسئول عن ملف إصلاح الأجور أن كل موظف يتقاضى راتب شامل أقل من 700 جنيه سيتم رفعه إلى 700 جنيه , ومن كان يحصل على أعلى من هذا الحد عند التطبيق سيتم زيادة راتبه بقيمة 278 جنيه شهرياً , وأنالحد الأدنى سوف يتحرك ليصل إلى 1200 جنيه خلال خمس سنوات .
حدد مجلس الوزراء موعد تطبيق الحد الأدنى للأجور لموظفي الدولة اعتباراً من يوليو 2011 , وأعلن وزير القوى العاملة والهجرة أن تطبيق الحد الأدنى للأجور للعاملين بالقطاع الخاص سيكون اعتباراً من أكتوبر 2011 .
وقد أفاد الدكتور/ حازم الببلاوي نائب رئيس الوزراء ووزير المالية أن الحكومة ستعلن حد أقصى للأجور يطبق على العاملين في الجهاز الإداري للدولة سواء كانوا يتقاضون راتبهم من الموازنة العامة أو من المنح والمعونات الأجنبية ولا يطبق الحد الأعلى على القطاع الخاص .
أين الخلل ؟
لقد عجزت نظريات الحد الأدنى للأجور سواء كانت ليبرالية أو ماركسية أو غير ذلك من أفكار اقتصادية تقع بينهما في تقديم أساس عادللتحديد الأجور , والأمر اللافت للانتباه هو التقارب والتماهي بين النظريات الليبرالية والماركسية في ربط الأجور بالحد الأدنى الضروري اللازم لمعيشة العامل وأفراد أسرته " حد الكفاف " للمحافظة على حياته باعتباره عنصراً من عناصر الإنتاج وليس لقيمته كإنسان . فأين يكمن الخلل ؟
يكمن الخلل في الاعتقاد السائد لدى الاقتصاديين من أن نظريات الأجور إما أن تكون ليبرالية أو ماركسية أو فيما بينهما , لأنه في اعتبارهم لا يوجد في العالم إلا نظامين اقتصاديين هما النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي , والتجاهل وعدم الاعتراف بالنظام الاقتصادي الإسلاميبل وإنكار وجوده أصلاً , وذلك عمداً من قبل أعدائه , وجهلاً بوجوده لدى العامة , وتقصيراً وتخاذلاً من أتباعه في القيام بواجبهم نحو استنباط وتقديم حلول عملية للمشاكل الاقتصادية مستمدة من النظام الاقتصادي الإسلامي .
مفهوم الكفاية في الإسلام
" حد الكفاية " أو الغنى هو ذلك الحد الذي يكفي معيشة الفرد ومن يعول من الحاجات الأساسية والحاجية والتحسينية التي اعتاد أفراد المجتمع على الاحتياج إليها دون إسراف أو تقتير , مع مراعاة الظروف التي يعيشها المجتمع على المستوى العام سعة وضيقاً , يقول الماوردي في الأحكام السلطانية : " تقدير العطاء مرتبط بالكفاية " .
يعتبر تحقيق حد الكفاية لجميع أفراد المجتمع من أهم ما جاء به الإسلام في المجال الاقتصادي , فبينما اهتمت الاقتصاديات الوضعية " بحد الكفاف " للقضاء على الفقر المطلق تحت تأثير المطالبة الجماعية للفقراء , اهتم الاقتصاد الإسلامي بمستوى أعلى من القضاء على الفقر يتمثل في " حد الغنى " الذي يوفر للفرد متطلباته بالقدر الذي يجعله في سعة من العيش وغنى عن غيره باعتبار ذلك حق إنساني ثابت لكل فرد في المجتمع لا يحتاج إلى إعلان الحاجة إليه أو المطالبة به .
أسس تحديد الكفاية في الإسلام
حد الكفاية في الإسلام ليس مجرد كلام نظري ومعاني نبيله يستخدمها الدعاة في خطبهم , ولكنه حقيقة لها أسس واقعية واضحة في النظام الاقتصادي الإسلامي .
حد الكفاية في القرآن الكريم : يحدد الخالق سبحانه وتعالى كفاية آدم عليه السلام في الجنة في قولة تعالى : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } سورة طه 118, 119 . ففي الجنة يتوافر للإنسان كفايته من الأكل والشرب والملبس والمسكن , وهي حاجات أساسية لا تستقيم حياته بدونها .
حد الكفاية في السنة النبوية : فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ً " رواه البخاري , وهذا الحديث يضيف لمقومات الحياة الأساسية توفر الأمن ووسائل العلاج .
ولم يقتصر صلى الله عليه وسلم على هذا الحد فقد روي عنه أنه قال : " من ولي لنا عملا فلم يكن له زوجة فليتزوج أو خادما فليتخذ خادما أو مسكنا فليتخذ مسكنا أو دابة فليتخذ دابة فمن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال أو سارق " رواه أحمد , وهذا يكشف عن نظرة الإسلام تجاه حد الكفاية للعاملين في أجهزة الدولة ويقرر الحدود الأساسية التي تكفل لكل إنسان حياة كريمة من مسكن وزوجة ووسيلة انتقال وخادم .
نموذج لعقد عمل بالأجر العادل " أجر الكفاية " : ورد هذا النموذج في القرآن الكريم في قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } سورة القصص الآية 27 .
هذا نموذج تطبيقي لعقد العمل المبرم بين سيدنا موسى عليه السلام الشاب القوي الذي لا يملك المال ولا العمل ولا السكن ولا الزوجة ولا يتمتع حتى بالأمن , وسيدنا شعيب عليه السلام والذي بمقتضاه قبل سيدنا موسى العمل في رعي الأغنام لمدة ثماني سنوات مقابل توفير الطعام والشراب والملبس والمسكن والزوجة وهذا كله دونما طلب من سيدنا موسى . فهل عجزت الدولة بكل إمكانياتها أن تقوم بهذا الدور مع الشباب رغم رغبته وقدرته على العمل ؟
مطلوب أجر عادل وليس حد أدنى للأجور
الأصل في موضوع الأجور هو وضع أسس وقواعد واضحة لطريقة تحديد الأجر العادل لمختلف فئات المجتمع الذي يحقق لهم مستوى الكفاية أو الغنى وليس مستوى الكفاف أو الفقر كما في الحد الأدنى للأجور , بحيث يشترك الجميع في محل صفة الغنى ويكون الاختلاف والتفاوت في درجة ومنزلة الغنى بعد إزالة الفقر والقضاء على الحرمان , على أن يعدل هذا الأجر بصفة دورية دون الحاجة إلى طلب من العاملين باعتبار ذلك حقهم في حياة كريمة وليس منحة أو هبة من صاحب عمل أو حكومة , ويكون التعديل وفقاً للتغير في مستويات أسعار السلع والخدمات وبما يتفق مع المستوى المعيشي العام السائد في المجتمع .
أما الحديث عن وضع رقم مالي كحد أدنى للأجور لا يستند إلى أسس واضحة في كيفية تقديره , ولا يكفي لتلبية الحاجات الأساسية للموظف أو العامل ومن يعول , وأن يكون ذلك تحت ضغط المطالبات لسنوات طويله وبعد صدور أحكام قضائية يتم الالتفاف عليها بشتى الطرق والوسائل , فإن هذه الأرقام المعلنة تعتبر تكريساً للفقر والتفاوت الطبقي في المجتمع .
تساؤلات ؟
بعد هذا التناول الموجز لنظريات الحد الأدنى للأجور في المذاهب الاقتصادية الوضعية , وبيان مفهوم الكفاية وأسس تحديده , وتوضيح أن الأصل هو وضع هيكل عادل للأجور يعتمد على مفهوم الكفاية , وبعد تقديم نموذج عملي للأجر العادل الذي يحقق الكفاية للموظف أو العامل ومن يعول هناك مجموعة من التساؤلات يجب طرحها على كل ذي عقل منصف .
هل سيستمر الجدل ويطول حول الحد الأدنى للأجور الذي طرحته الحكومة ؟ وبمعني آخر هل سنستمر في البحث في المذاهب الاقتصاديةالوضعية عن حلول لمشاكلنا الاقتصادية ؟ وهل سيظل الاقتصاديين الغربيين والمسلمين المنكرين لوجود الاقتصاد الإسلامي العادل على إنكارهم بعد الحقائق التي تتبين لهم يوماً بعد يوم ؟ وهل سيظل الاقتصاديين المسلمين المؤمنين بوجود منهج اقتصادي إسلامي متكامل وعادل على تقصيرهم وتخاذلهم في استنباط وتقديم حلول عملية مبتكرة لمشاكلنا الاقتصادية مستمدة من النظام الاقتصادي الإسلامي ؟