بورصة: الاقتصاديون الذين يقرأون ويحللون البيانات المنشورة عن أوضاع الاقتصاد الأمريكي بداية من أزمة الرهن العقاري في 2007، مروراً بالأزمة المالية العالمية في 2008 , وصولاً إلى إفلاس 140 بنك بخلاف عملاق الصناعة الأمريكية جنرال موتورز في 2009، ثم إفلاس 157 بنك آخر في 2010، انتهاءاً إلى بلوغ الدين العام للحكومة الأمريكية 14,3 تريليون دولار في 2011 لا يمكنهم أن يتجاهلوا هذه البيانات، ولا أن يتعاملوا معها دون أن يتطرق إلى أذهانهم أنها قد تكون ارهاصات ومقدمات تقود إلى إعلان إفلاس أمريكا، إن لم تتخذ الحكومة الأمريكية اجراءات جادة لمعالجة نظامها المالي وتصحيح أوضاعها الاقتصادية.
الولايات المتحدة تعيش خارج حدود الامكانيات
يقول ( د. محمد السقا ) أن الولايات المتحدة تعيش خارج حدود امكانياتها ومواردها حيث أن سكان أمريكا يمثلون 4,5% من سكان العالم ومع هذا يستهلكون 25% من موارد العالم , أي خمسة أضعاف نسبة سكانها , فالولايات المتحدة تستهلك أكثر مما تنتج وتمول الفرق من حساب مدخرات الدول الأخرى , ولا يمكن لدولة أن تعيش خارج حدود امكانياتها لفترة طويلة , أذ لابد أن يأتي يوم تتراكم فيه الالتزامات بصورة تعجز معها عن سداد تلك الالتزامات .
الولايات المتحدة أكبر دولة مدينة في العالم
وصل دين الحكومة الأمريكية في 16/5/2011 إلى السقف المصرح به من قبل الكونجرس للاستدانة هذا العام وهو 14,3 تريليون دولار , وبدلاً من زيادة الضرائب أو خفض الانفاق الحكومي لزيادة معدلات الادخار لسداد الديون فإن الحكومة الأمريكية تسعى لرفع هذا السقف الخيالي بمزيد من الديون , ووزير الخزانة الأمريكي يحذر الكونجرس من عواقب عدم الموافقة على رفع الحد الأعلى للاستدانة لأن ذلك سيجعل حكومة القوة العظمى والقطب الأحادي في العالم عاجزة عن دفع رواتب ومستحقات العسكريين والموظفين والشركات والمستثمرين .
تحذير من تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة
تجاهل الولايات المتحدة لمطالب الدول الدائنة لها باتخاذ اجراءات تقشفية لتخفيض الدين العام وخلق فرص عمل جديدة تساعد في رفع معدل نمو الاقتصاد دفع هيئات التصنيف الائتماني الدولية وعلى رأسها ” موديز “ إلى التحذير من تخفيض تصنيف الولايات المتحدة المميز عند AAA إذا فشل الكونجرس في زيادة الحد الأقصى للديون خلال الأسابيع القليلة القادمة .
تحذير ” موديز “ يتوافق مع تحذيرات أطلقتها وكالة ” ستاندرد آند بورز “ للتصنيف الائتماني في أبريل 2011 حذرت فيها الولايات المتحدة من فقدانها علامتها كأفضل مقترض في العالم بتخفيض تصنيف ديونها من ” مستقر ” إلى ” سلبى ” .
تغيير التصنيف الائتماني للولايات المتحدة يعني أن تزداد معدلات الفائدة على القروض التي تحصل عليها من الخارج وتكمن خطورة ذلك في توجيه نسبة أكبر من المدفوعات المستقبلية لسداد فوائد القروض بدلاً من سداد الديون نفسها , وارتفاع اسعار الفائدة يؤثر على الأفراد والشركات والحكومات المحلية ويسبب أضراراً بعيدة المدى على الاقتصاد ويحد من النمو ويزيد البطالة ومن الممكن أن يغرق الاقتصاد في حالة ركود .
تداعيات تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة
تقارير تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة تجعل المقرضين الأساسيين كالصين التي تمتلك 1,4 تريليون دولار في السندات الأمريكية , تليها اليابان 890,3 مليار دولار , وبعدها السعودية 800 مليار دولار , ثم بريطانيا 295,5 مليار دولار , ومن بعدها الهند التي تستثمر حوالي 180 مليار دولار , يزيد لديهم الشك في قدرة الولايات المتحدة على سداد ديونها في المدى الطويل وبالتالي فقد الثقة في الدولار كعملة احتياط دولية .
الشك في قدرة الولايات المتحدة على سداد ديونها في المدى الطويل جعل دول العالم المقرضة لأمريكا وعلى رأسها الصين تنادي بإيجاد عملة احتياط دولية بديلة عن الدولار تجنباً لتراجع قيمة الاستثمارات الدولارية لتلك الدول نتيجة انخفاض القوة الشرائية للدولار , وقد اقترح محافظ البنك المركزي الصيني وقف استخدام الدولار كعملة احتياط دولية واستبداله بوحدات حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي .
المؤشرات الدالة على مقدمات إعلان إفلاس أمريكا
1- الرئيس أوباما يعلن أمام الاجتماع السنوي للجمعية الطبية الأمريكية ” أن الولايات المتحدة قد تسيرعلى طريق جنرال موتورز إذا لم يتم اصلاح نظام الرعاية الصحية ” ولا يخفى على أحد أن هذا الربط بين الولايات المتحدة وبين جنرال موتورز يعني الاتجاه نحو الإفلاس باعتبار أن إفلاس جنرال موتورز كان بسبب عجزها عن تدبير التكاليف الضخمة لتوفير الرعاية الصحية لعمالها.
2- وزير الخزانة الأمريكي تيموثي غايتنر يعلن أن استخدام تدابير الطوارئ لتوفير الأموال لمواصلة المدفوعات يمكنه من السداد حتى الثاني من أغسطس المقبل فقط , ويحذر من أنه بعد ذلك التاريخ لن يصبح قادراً على دفع بعض المدفوعات معاً بشكل كامل , واللافت للانتباه استخدام وزير الخزانة الأمريكي لعبارات لم تستخدم من قبل للتحذير من وضع اعتبره أيضاً سابقة في تاريخ أمريكا يتلخص في عجز الحكومة الفيدرالية عن النهوض بـ ” التزاماتها القانونية “ وهو مايرقى فعلياً إلى حالة إفلاس تقليدية بكل مايعنيه المصطلح .
3- إذا استمرت أمريكا في عدم رغبتها في اصلاح اقتصادها بزيادة الضرائب أو خفض الانفاق فإن الواقع سيفرض عليها السماح بتضخم كبير , هذا التضخم سيخفض القيمة الحقيقية للدين المحلي والبتالي انهيار قيمة الدولار مما يفقد الثقة فيه أكثر ويزيد من الأزمة ويؤدي إلى توقف أمريكا عن سداد ديونها وإعلان إفلاسها وما يستتبعه من آثار مدمرة على الاقتصاد العالمي .
أسباب تأخر إعلان إفلاس أمريكا
شاهدنا إعلان إفلاس ايسلندا في 2008 , ورأينا شبح الإفلاس يطارد اليونان والبرتغال وأسبانيا فلماذا تأخر إعلان إفلاس أمريكا رغم أنها أكبر مدين في العالم ؟ في تصوري أن هناك ثلاث أسباب تؤخر إعلان إفلاس أمريكا هي :
1- الدين الخارجي للولايات المتحدة مقوم بعملتها المحلية الدولار وهي عملة العالم أيضاً بموجب اتفاقية ” بريتون وودز “ عام 1944 , لذا يمكن لأمريكا طباعة الدولار وسداد ديونها وهي ميزة فريدة تتمتع بها أمريكا دون بقية دول العالم .
2- عدم رغبة الدول التي لديها احتياطيات ضخمة بالدولار الأمريكي في إعلان إفلاس أمريكا لأن ذلك يعني فقدانها لاحتياطياتها , والدول المربوطة عملاتها بالدولار لا ترغب في إعلان إفلاس أمريكا أيضاً لأن هذا يعرض عملاتها المحلية للانهيار بالتبعية وهو ما يؤدي إلى ضغوط تضخمية داخل تلك الدول بسبب ارتفاع تكلفة الواردات الناتجة عن انخفاض قيمة عملاتها .
3- الولايات المتحدة قوة جبارة ” سوبر باور “ ولديها الاستعداد لاستخدام هذه القوة مع من يخالفها الرأي , والعالم مازال يذكرالمقولة الشهيرة للرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش ” من ليس معنا فهو ضدنا “ التي أجبرت العالم على الاشتراك معه في حربه على الارهاب .
لذا في تصوري أنه فى المدى القريب سيظل الدولار هو عملة العالم , وفي المدى المتوسط ستكون القوى الأقتصادية الصاعدة الممثلة في الصين واليابان وروسيا والهند وتركيا وغيرها قادرة على التعامل فيما بينها بعملاتها المحلية دون الحاجة للدولار كعملة وسيطة , أما على المدى فوق المتوسط والطويل فإن العالم سيشهد تحولاً في موازين القوى العسكرية والاقتصادية بما يسمح بظهور نظام مالي واقتصادي عالمي أكثر عدالة لا تنفرد به دولة واحدة .
نقطة أخيرة ما تقدم هو الأسباب الظاهرة الداعية إلى إعلان إفلاس أمريكا وفقاً للمنطق الاقتصادي , ولكن وفقاً للمنطق الإيماني اليقيني بالله فإن السبب الحقيقي المستور خلف هذه الأسباب الظاهرة يتعلق بأن الاستثمار في سندات أذون الخزانة الأمريكية بفائدة هو الربا المحرم ومصيره إلى زوال كما جاء في قوله تعالى ” يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ “ البقرة 276.
|