تكثيف الأنباء عن تواصل الأرباح القياسية للبورصة المصرية لجذب مزيداً من السيولة إليها , بدلاً من ضخها في شرايين المشاريع الاقتصادية المنتجة التي مصر في أمس الحاجة إليها في هذه المرحلة , يدفعني إلى التذكير بأن البورصة بحاجة إلى قرار عاجل وحاسم لوقف تدميرها للاقتصاد القومي , وخاصة أن الكثيرين وبعضهم اقتصاديين يخلطون بين مفهومين :
السوق الأولية : وهي سوق الإصدار الذي تطرح فيه الشركات أسهمها للاكتتاب العام لأول مرة أو لزيادة رأس المال , وهذا السوق يوفر التمويل المطلوب لإضافة مشروعات جديدة تسهم في زيادة إنتاج السلع والخدمات وخلق فرص عمل جديدة . وهذا ما نحتاجه بشدة في الوقت الحالى بعدما أحجمت البنوك عن تمويل المشروعات المنتجة , وفضلت إقراض الحكومة لتغطية عجز مصروفاتها . وهذا السوق تقوم به بنوك الاستثمار أو البنوك التجارية أو المنشأة ذاتها بطريقة مباشرة مع المستثمرين , ولا دخل لتداولات البورصة اليومية بتمويل الشركات .
السوق الثانوية : سوق التداول المشهور لدى العموم بالبورصة والذي تتداول فيه الأسهم بعد إصدارها أي بعد توزيعها بمعرفة بنوك الاستثمار وانتهاء الاكتتاب فيها وملكيتها من الأفراد . هذه السوق التي تتجاوز تعاملاتها مئات المليارات سنوياً لا يستفيد الاقتصاد الحقيقي منها شيئاً , بل على العكس من ذلك تماماً فإنها تسبب الضرر للاقتصاد الحقيقي لأنها تشجع على تنقل الأموال بين أيدي البائعين والمشترين بعيداً عن دائرة العمل والإنتاج .
ويكفي العلم أن تداولات البورصة " السوق الثانوية " في عام 2011 بلغت 148 مليار جنيه , وتداولات البورصة في عام 2010 بلغت 321 مليار جنيه , وتداولات البورصة في عام 2009 بلغت 448 مليار جنيه , هذه التداولات التي قاربت تريليون جنيه على مدار ثلاث سنوات لم تساهم في إنشاء شركة جديدة , أو توسعة شركة قائمة , أو توفير فرصة عمل , أي أن تداولات البورصة لم ولن تحقق أي قيمة مضافة للاقتصاد القومي المصري .
علماء الاستثمار والمختصون بشئون البورصات يرون أن كل من يكرس كل وقته في المتاجرة بالأسهم لتحقيق هامش ربح عند الشراء والبيع يعتبر من كبار المقامرين , وهو ما دفع أحد أغنى أغنياء العالم الملياردير والمستثمر الناجح " وارن بافت " إلي وصف تعاملات البورصة بأنها كجهنم يسهل الدخول إليها ويستحيل الخروج منها ! .
فالتعامل في البورصة بالبيع والشراء إن كان بين المصريين فإن البعض يكسب والبعض الآخر يخسر بنفس المقدار في ممارسة مقننة للقمار , وتظل الأموال داخل الدولة مع تركيزها في يد فئة محدودة ومعروفة , وهذا يمثل خلل في توزيع الثروة يهدد الأمن الاجتماعي .
أما إن كان التعامل بين المصريين والأجانب وارتفعت الأسعار وباع الأجانب ما يملكون من أسهم وحولوا الأموال إلى الخارج , فإن هذا يمثل استنزاف لاحتياطي النقد الأجنبي في صورة تحويلات للخارج دون الحصول على ما يقابلها من إنتاج أو خدمة , وهو ما يعني فقد عنصر من عناصر الانتاج من دائرة الاقتصاد مما يعيق عملية التنمية .
التلاعب بمشاعر الناس
الأخطر من ذلك التلاعب الممنهج بمشاعر الناس لدفعهم للتعامل في البورصة بالإعلان عن أن البورصة ربحت 18مليار جنيه في يوم واحد , علماً بأن حجم التداول في ذلك اليوم لم يتجاوز 536 مليون جنيه ! مايحدث ببساطة هو تداول مجموعة صغيرة من أسهم الشركات بارتفاع نسبته 7,6% عن اليوم السابق بعدها تقيم جميع أسهم هذه الشركات بنفس نسبة الارتفاع , ويعد الفرق بالزيادة عن اليوم السابق ربحاً أو ارتفاع لرأس المال السوقي , والفرق بالنقص عن اليوم السابق خسارة أو انخفاض لرأس المال السوقي , فلا ربح أو خسارة ولا زيادة أو نقصان ولكن وهم وتلاعب بالألفاظ .
بعد هذه الحقائق المجردة مطلوب قرار عاجل وحاسم بحصر وظيفة البورصة في تسجيل ونقل ملكية الأسهم بصورة فعلية تمكن المشتري من استلام الأسهم وحصول البائع على الثمن , ليصبح المشتري مساهم في شركة يحصل على الربح الناتج عن نشاطها الاقتصادي في نهاية العام من واقع الميزانية , وحظر جميع العمليات الآجلة , والعمليات التي تقوم على الاقتراض كالبيع على المكشوف والشراء بالهامش لوقف تدمير البورصة للاقتصاد القومي .